📁 تدوينات جديدة

طقوس لحظات الإبداع مع الأدباء والمشاهير︱وفيق صفوت مختار

تتوغَّل «سلسلة أصداء الفكر» في حياة الأُدباء والفلاسفة، لتستكشف عن كثب الطُّقُوس أو العادات التي اِتَّبعها هؤُلاء في كتابة إبداعاتهم المُتميِّزة والمُتفرِّدة، لنكتشف في النَّهاية أنَّ العمليَّة الإبداعيَّة بحاجةٍ مُلِحَّةٍ إلى جُهُودٍ خارقةٍ، وتضحيات لا مثيل لها، يُقدِّمُونها وهُم في أوج نشوتهم، فالإبداع مُتعة ما بعده مُتعة، ولكنَّها مُتعة قد تكلف الكثير.

نبدأ الرِّحلة بصُحبة الرِّوائي والمسرحي الأمريكي «آرثر ميللر» Arthur Miller (1915- 2004م)، فيقُول: «أتمنَّي لو كان لديَّ رُوتين أتَّبعه في الكتابة»، ولكنَّه قال لاحقًا عن طُقُوسه: «أستيقظ في الصَّباح، أتوجَّه إلى مكتبي وأكتُب. بعد ذلك أكسر كُلّ شيء! هذا رُوتيني، في الواقع. وهكذا بالصُّدفة، يبقي شيء ما. وهذا ما أُتابع الاشتغال عليه. الصُّورة الوحيدة التي تتبادر إلى ذهني، هي لرجُلٍ يمشي أثناء عاصفة رعديَّة وبيده قضيب ثلج».

وتُعلن الرِّوائيَّة الإنجليزيَّة الأشهُر «أجاثا كريستي» Agatha Christie (1890- 1976م)، في سيرتها الذَّاتيَّة أنَّها لا تعتبر نفسها، في الواقع، «كاتبة حقيقيَّة»، على الرَّغم من أنَّها ألَّفت عشرات الكُتُب، فعندما يلتمسُون منها إثبات مهنتها في مطبُوعٍ ما، لا يتبادر إلى ذهنها تدوين شيء آخر غير: «ربَّة بيت». تقُول «كريستي»: «.. الغريب هُو أنَّني نادرًا ما أتذكَّر الكُتُب التي ألَّفتها بعد زواجي، أفترض أنَّني كُنت أستمتع بالحياة اليوميَّة المُشتركة، لدرجة كانت الكتابة، بالنسبة إليَّ، بمنزلة مهام أقُوم بها بشكلٍ مُتقطِّعٍ مُختلسٍ، لم يكُن لي، أبدًا، مكان مُحدَّد، مثل مكتب، أو أي فضاء، آخر ألُوذ به، خصِّيصًا، طلبًا للعُزلة والكتابة».

جلب هذا الأمر لـــ «كريستي» مشاكل لا تنتهي مع الصِّحافيِّين، الذين لم يكُن من السَّهل منعُهُم من أخذ صُور فُوتُوغرافيَّة للكاتبة وهي تجلس إلى مكتبها. لكن لم يكُن ثمَّة وُجُود لفضاءٍ مُحدَّدٍ. كُلُّ ما كانت تحتاجُه هُو طاولة متينة محكمة، وآلة كاتبة.

تقُول في سيرتها الذَّاتيَّة: «قال لي كثير من أصدقائي: لا نعرف أبدًا متَّى تُؤلّفين كُتُبكِ، لأنَّنا لم نركِ قطّ تكتُبين، ولا حتَّى مُنصرفة لأجل الكتابة. فقُلت لهُم: ذلك لأنَّني أفعل مثلما تفعل الكلاب عندما تظفر بعظمٍ، تنسحب بحذر ولن تراها إلَّا بعد مُرُور نصف ساعة. تعود بخجل وخطمها مُوحل. أنا أفعل الشَّيء نفسُه تقريبًا. أشعُر بنفسي في قمَّة الخجل وأنا مُنصرفة للكتابة. لكن بمُجرَّد ما أفرُّ بجلدي، وأغلق عليَّ الباب، ولا أترك للنَّاس أيَّة فُرصة لمُضايقتي، حتَّى أتمكَّن من الانطلاق بأقصى سُرعة، مُنغمسة تمامًا فيما أفعلُه».

ونُواصل الجولة مع الرِّوائي والرَّسَّام الأمريكي «هنري ميللر» Henry Miller‏ (1891-1980 م). عندما كان «ميللر» لا يزال روائيًّا شابًّا اعتاد أنْ يكتُب بشكلٍ مُتواصلٍ من مُنتصف اللَّيل حتَّى بزُوغ النَّهار، إلى أن أكتشف يومًا أنَّه شخص نهاري. وخلال إقامته في باريس، بداية الثَّلاثينيَّات من القرن المُنصرم، حاول «ميللر» أنْ يُنوِّع توقيت الكتابة بالاشتغال من ساعة الإفطار إلى توقيت الغذاء، وأحيانًا إلى اللَّيل. ولكنَّه سيكتشف، بعدما يُدركه الكِبر، أنَّ أيَّ شيء، بعد مُنتصف النَّهار ليس ضرُوريًّا، وغير مُنتج. كما أعلن: «لا أُؤمن بتصريف الاحتياط، أُؤمن بالنُّهوض من الفراش والجُلُوس إلى آلة الكتابة ما دام لا يزال لديَّ ما أقُولُه».

ساعتان أو ثلاث في الصَّباح كانت كافية بالنِّسبة إليه، وإن أرقه التَّفكير، دائمًا، في أهمية امتلاك توقيت متوازن من أجل زرع إيقاع إبداعي يومي، كان يقُول: «أعرف أنَّه على الإنسان أنْ يكُون شديد الانضباط، وأنْ يعيش حياة مُنضبطة لكي يتمكَّن من القبض على لحظات النُّور الأصيلة هذه».

أمَّا الكاتب الأمريكي «وليام فُوكنر» William Faulkner (1897- 1962م) فكان يكتُب بشكلٍ جيِّدٍ خلال ساعات الصَّباح، وإن استطاع طوال حياته التَّكيُّف مع مُختلف البرامج الزَّمنيَّة بحسب الضَّرُورة. يكتُب روايته «بينما أرقد مُحتضرة» مساءً، قبل أنْ يتسلَّم دوريَّته اللَّيليَّة كمُراقبٍ لمحطَّةٍ كهربائيَّةٍ بالجامعة. لقد وجد التَّوقيت اللَّيلي أكثر مُرُونة، ينام ساعات قليلة في الصَّباح، ويكتُب خلال ساعات المساء، في طريقه إلى العمل يزُور والدته، التي تُعدُّ له فنجان قهوة، ويُواجه بعض الرَّتابة خلال دوريَّة العمل، ولكنَّها ليست بذلك الثِّقل. 

كان هذا عام 1929م، وفي عام1930 م اقتني آل «فوكنر» مزرعة كبيرة، وقد استقال من عمله لكي يتمكَّن من إصلاح بيت هذه المزرعة وأراضيها. سمح له هذا الوضع الجديد بالاستيقاظ في وقتٍ مُبكِّرٍ، يفطر، ويجلس على مكتبه الصَّباح كُلّه. (يُحبّ العمل في المكتبة، وبما أنَّها كانت بدُون قفل، فقد اُضطُرّ إلى تفكيك مقبض الباب ليتمكَّن من الاحتفاظ به أثناء عمله داخلها). بعد وجبة مُنتصف النَّهار، يُواصل «فوكنر» إصلاحاتُه المنزليَّة، أو يقُوم بجولةٍ طويلةٍ، أو يمتطي حصانُه. في اللَّيل يجتمع «فُوكنر» وزوجتُه داخل سيَّارته ليتسامرا.

بالنَّظر إلى الاعتقاد الشَّعبي في أنَّ «فُوكنر» كان يحتاج إلى الشَّراب كمُحفز للكتابة، لا شيء يُثبت ذلك. وإذا كان بعض أصدقائه أكَّدُوا هذه الحقيقة، فإنَّ ابنته نفت ذلك مرارًا وتكرارًا، وأكَّدت، بما لا يدع مجالًا للشَّكِّ، بأنَّ والدها: «يكتُب دائمًا في حالة صحوٍ تامٍّ». وفي كُلِّ الحالات، لم يكُن إلهام «فُوكنر» بحاجةٍ إلى مُحفِّزٍ من أيِّ نوعٍ. خلال أعوامه الأكثر خُصُوبة، أي مُنذ نهاية العشرينيَّات إلى بداية الأربعينيَّات من القرن المُنصرم، كان «فُوكنر» يشتغل بإيقاعٍ مُدهشٍ، غالبًا ما ينتج حوالي ثلاثة آلاف كلمة في اليوم الواحد، وفي مُناسباتٍ أُخرى الضعف. (كتب ذات يوم لأُمِّه يُخبرُها بأنَّه استطاع أنْ يُحطِّم رقمُه القياسي الشَّخصي بأنْ كتب في يومٍ واحدٍ فقط عشرة آلاف كلمة)، يُعلن «فُوكنر»: «أكتُب عندما تُحفِّزني رُوحي، ورُوحي تُحفِّزني كُلّ يوم».

ونختتم هذه الجولة مع الفيلسُوف الدِّنمركي «سُورين كيركغُور» Soren Kirkgur  ( 1813- 1855م). الذي لا شكّ فيه أنَّ النَّشــاطين الأكثر هيمنة على أيَّام الفيلسُـوف «كيركغُور» هما: الكتابة والمشــي. بشـكلٍ عامٍّ، يكتُب خلال ساعات الصَّبـاح، بينما ينطلق فــي جولةٍ طويلةٍ عَبْـر «كُوبنهاجـن» عند مُنتصـف النَّهار، ثُمَّ يعــُود للكتابة خلال ما تبقَّى من النَّهار، وحتَّى السَّاعات الأُولى من اللَّيل. تتفتَّق تلك الجولات النَّهاريَّة عن أفضل أفــكاره، وفي بعــض الأحيان يعُود بسُـرعةٍ فائقةٍ إلى منزله لكي يتمكَّن من تدوينها.

الكاتب:
وفيق صفوت مختار
(مصر)
تعليقات