وطوال الطريق، كان يفكر في أمرين، كيف يقنع أمه بأنه فشل في ﺇبقاء المبلغ المطلوب، وكيف يخفي المذياع ويستعمله متى شاء وﺇلى متى؟ كانت أسئلة محيرة أنسته مشاهد الطريق.
سافر أبوه لزيارة عمه بالعاصمة، حيث كان طريح الفراش وقتها، لذلك بقي الأب ملازما لأخيه مدة من الزمن...
غياب الأب جعله مسؤولا عن أمور البيت. كل الأشغال والأعمال التي كان يقوم بها الأب أصبحت الآن من واجباته التي عليه القيام بها.
ذات ثلاثاء، وهو يوم السوق الأسبوعي في بلدته، كلفته أمه بالذهاب إلى السوق لشراء الخضر والفواكه واللحم، ومواد غذائية أخرى كالشاي والسكر والنعناع والقزبور، تلك المستلزمات التي لا يخلو بيت منها، يحرص الجميع على اقتنائها من السوق الأسبوعي.
مكنته أمه من قدر من المال، وأوصته بشراء ما تطلبه منه أخته فقط، وهي التي تتكلف بأمور المطبخ، ثم نبهته لأمر مهم، هو أن يبقي مبلغا معينا من المال لدفعه أجرة لسقي إحدى الحقول التي كانت لهم.
ذهب ﺇلى السوق، وهو يفكر في المبلغ الذي أصرت أمه على أن يبقيه بعد اقتناء ما طلب منه، يعرف أنها لم تكن مهمة يسيرة، لكنه كان يعلم كذلك أنه يستطيع فعل ذلك وهو المتمرس على التسوق.
كان منشغل البال بأمر آخر، لطالما كان يراوده، ينظر ﺇليه مثل حلم يجب تحقيقه. كان يسير بين الباعة الذين يفرشون سلعهم على الأرض، أو يعرضونها فوق طاولات معدة لذلك الغرض. تجد بين تلك المعروضات بعض الملابس، وبعض الأدوات الخفيفة، أسطوانات الأغاني ، بعض الأجهزة، وغير ذلك.
وقع نظره على أحد الباعة يعرض مجموعة من أجهزة المذياع بأحجام مختلفة. تقدم ليسأله عن ثمنها، أجابه البائع بأثمنة، أقلها هو ما كان يملكه في جيبه، أو بالأحرى تبقى له بعد اقتناء كل الحاجيات. لم يتردد كثيرا، اشترى مذياعا صغيرا وأبقى بعضا من الدريهمات تكفيه للوصول ﺇلى البيت عبر سيارة أجرة.
وطوال الطريق، كان يفكر في أمرين، كيف يقنع أمه بأنه فشل في ﺇبقاء المبلغ المطلوب، وكيف يخفي المذياع ويستعمله متى شاء وﺇلى متى؟ كانت أسئلة محيرة أنسته مشاهد الطريق.
وصل إلى البيت، وضع سلة المشتريات في ﺇحدى زوايا المطبخ الواسع، توجه لغرفته مخفيا كيسا به مذياعه الجديد لا يلوي على شيء. خبأ مذياعه في مكان في غرفته، ثم أخذ يستجمع تفكيره وأساليبه في اﻹقناع ليشكل جملا منطقية تجعل الأم تقتنع بمرافعاته المنتظرة.
لمحها آتية، فسألته، هل أبقيت ما طلبته منك؟ كان متأكدا أنه سيكون أول سؤال يأتيه من أمه. أجابها بالنفي، واستطرد قائلا :
- لم أتمكن من ذلك، لقد كانت الأسعار مرتفعة، حتى أنني لم أتمكن من شراء كل ما كنت أريده. قال ذلك وهو الذي حقق حلما.
كان ردها غاضبا بالنظر لاحتياج الحقل للسقي أكثر من غضبها على عدم قيامه بالمهمة على الوجه المطلوب.
ظل كل يوم ينتظر الليل حتى يرخي بسواده، ليشغل مذياعه الصغير، متنقلا عبر الموجات اﻹذاعية من إذاعة لإذاعة، كان يهوى سماع اﻹذاعات الوطنية كثيرا ببرامجها الجميلة، اﻹخبارية والحوارية والثقافية والرياضية.
ذات يوم، وهو راجع من حصته الدراسية اليومية، ﺇذا به يفاجأ بأخته التي تكبره تحمل بين يديها أنيسه الذي أخفاه لمدة، لقد اكتشفت أخيرا سره. أخبرته أنها ستخبر أمهما بالأمر. فعلت ما قالته، فكان عليه الاستعداد لسيل من التوبيخات والمخاصمات. لقيته أمه وصبت على مسامعه خطبا من الخصام واللعنات التي لا يطاق سماعها. تحمل ذلك كله حين تذكر أن المقابل مذياعه الجميل.
من حسنات كشف أمره، قدرته على تشغيل أنيسه كل الأوقات. أصبحت له مواعيد يومية لا يفوتها، فكل صباح يحرص على سماع حصة أحد البرامج اليومية المسمى "الحياة الرياضية" قبل الخروج نحو المدرسة.
أخذ يتجول عبر العالم من خلال الاستماع لإذاعات تبث ﺇرسالها عبر الموجات القصيرة الدولية، حتى أصبح مصدر الأخبار لأصدقائه المولعين بأخبار الرياضة.
كان أبوه مستمعا وفيا للمذياع، غير أنه لا يضبط جهازه ﺇلا على ﺇذاعة واحدة. تعرف عليها ذات مرة وهو يلج غرفة أبيه التي كان يستقيل فيها بعد الغداء عادة. استغل غيابه ذات يوم فشغل المذياع وسمع صوتا جميلا جهوريا بلغة عربية فصيحة يقول : هنا لندن، من القسم العربي لهيئة الاذاعة البريطانية، نشرة الأخبار".
تذكر ذلك وهو يقلب بين الموجات الاذاعية على مذياعه، فجأة تلتقط أذناه تلك الجملة. أحس ﺇحساسا غريبا فغزت وجنتاه ملامح ضحكة من عثر على مفقود له.
ظل وفيا لمجموعة من اﻹذاعات، من الشرق والغرب، بكل اللغات، التي كان يدرسها. تولدت لديه علاقة حميمية مع المذياع ذاك، وتعرف أمورا عن بلده لم يسمع بها قط عبر كل المنابر التي تذيع أخبار بلده...
لقد ولد من جديد، وصار شخصا آخر...
جامع بوسعيد丨المغرب