📁 تدوينات جديدة

رحلة إلى تايوان، قصة: ذ. سناء السكال (المغرب)

مر الزمان مسرعا، لم آبه بدوران الأرض اليوم رغم أن غدة الإيبوفيس لا تحتمل هذا الخض أثناء المسافات الطويلة غداة السفر. قرأت آيات من القرآن وخلدت للنوم، لكني استيقظت على صوت البرق ورائحة المطر في الأرض المخضرة. يا له من منظر جميل من خلال نافذتي! نسيت للحظة المواصلات ونسيت من أكون ونسيت المكان والزمان، ولكن خطى المضيفة تسارعت نحوي، سمعتها تقول أننا سوف نحط الرحال، ويجب أن نضع أمتعتنا فوق حتى نأمن خلال الرحلة.

طارت مخيلتي وتذكرت أستاذ الفنون والرسم، وأستاذ الرياضيات، وقد اتفقا كل من جانبه أن بيكاسو استخدم الأشكال الهندسية، وألفت يداه حنكة محاكاة الطبيعة، وأن الطبيعة فعلا بها قدر لا يستهان به من التوازي. نظرت إلى المقعد، إلى جانبي وإلى الصفوف، فوجدتها متراصة، أحببت لون البيج على المقاعد والنوافذ وفي كل الجوانب، أراحني المنظر ففتح شهيتي للأكل، علبتا الشكولاتة لم يتبق منهما الكثير، أتمنى ألا أصاب بالزهايمر، نسيت أنني نويت أن أهديهما لأسرتي هناك بعد الوصول، تناولت من كل واحدة حبة لذيذة ومنعشة، لكن لا تدوم ككل شيء جميل في الكون. لاحظت أنني فقدت الرغبة بالحديث، سألتني المضيفة: "هل أنت جائعة سيدتي؟"

فكرت مليا، ولكنني تذكرت أنني فعلا كذلك، فضلت ان أومئ برأسي وقابلت هي ذلك بابتسامة، أحببت أن أجالسها لأعرف من هي كشخص بعيدا عن وظيفتها، وإن كانت ابتسامتها ستظل لو لم يكن عملها يفرض ذلك، طأطأت رأسي وتأملت، وجدتني أستأنس بوحدتي وأخاطب نفسي وأقول لها كم هي بارعة تلك النفس التي تكتفي بالقليل، نظرت ووجدت أن أغلبية الناس طغى على محياهم تعب الحياة، فتذكرت المعري حيث قال: "تعب كلها الحياة"، ما أصدق قوله وما أضيق الحياة لولا فسحة السفر. فتحت كتابي، قرأت مسرعة، ثم جاءت المضيفة لتناولني طعامي، لذيذ رغم الظروف الجوية المتقلبة التي اقتضت أن يرتاد الرواد بعض الامتعاض من كثرة الخض وقوة الرياح، جو شتوي بامتياز ولكن شغفي بمعطفي الدافئ ورطوبة قطنه أنساني برودة الطقس، أدخلت يدي في جيبي فوجدت ورقة الفندق والمعلومات الكاملة حول كيفية استقبالي، تذكرت والدتي ونظراتها الحنونة، ووالدي ومواعظه التي لا مثيل لها، وكيف أنه كان غزير المعرفة، كريم الطبع، لين الجانب، وكم أثر ذلك في كل من عرفه! راودتني فكرة أن أستقبل والداي عندي بعد أن أصل، ولكن تذكرت أنهما أنسا الجو الحار، وأن الجو القارس لا يناسبهما.

قام الربان لتوه بإلقاء التحية عبر الأثير، وأخبرنا أننا نجتاز جهة بها عاصفة ويجب توخي الحذر، كان صوته متزنا رغم صعوبة الموقف، ولم نحس بأية خطورة كما لو أن تجربته الطويلة وخبرته في الميدان جعلا من هذه العاصفة تحديا بسيطا.

نظرت إلى الشاشة أمامي فوجدت فيلما مسليا، لم آبه له فقد أغناني كتابي عن الفرجة.

اقتربنا من الوصول، ولكن بعض الضجيج سمع من إحدى الراكبات حيث صب عليها ولدها قهوة ساخنة فأحرقتها، نادت المضيفة فأتت مسرعة نحوها ثم عالجت الموقف بهدوء قل نظيره. أوشكنا على الهبوط، نظرت إلى أعين الركاب فلمحت على محياهم نظرات من زال عليه عبء كبير، هول السفر يبقى وحده رغم كل التسهيلات... استقبلني الجو بلطف لم أتوقعه، حتى أن غطاء رأسي الحريري لم يتململ، نظرت إلى السيد الذي ساقني إلى الفندق، يبدو وسيما جدا، سألني إن كان لدي شغف بالموسيقى فأجبته أنني أعشق "فور أليس لبتهوفن"، قال أنه لا يستمع للبيانو ويفضل موسيقى الجاز.

نظرت من النافذة فشاهدت منظرا أربكني، رأيت سيدة في التسعينات من العمر تجر عجلة أمامها وتتمتم وفي جانبها ابنتها في كامل قواها تحمل هاتفا ذكيا وتتكلم غير آبهة تماما بأمها التي تبدو عليها آثار عدم الارتياح، استوقفتني ملاحظة السائق أن جيل اليوم من الشباب لا يهتمون إلا بأنفسهم وأنهم اعتادوا كثرة الأخذ وقلة العطاء. ذهبت مخيلتي بعيدا فرأيتني أقتاد أمي إلى المطار وهي تهلل "لبيك اللهم لبيك" في طريقها إلى الحج، كم كنت فخورة بنفسي، وكم صغرت هذه الشابة في نظري! ألقيت على السائق التحية، ثم دخلت الفندق. وجدتني أمام بوابة كبيرة دائرية يدخل منها الناس من جهة ويخرجون من جهة أخرى، لم أعتد مثلها، حاولت الدخول فسبقتني سيدة منحتها الفرصة فصرخت في وجهي: "ألا ترين أنني يجب أن أدخل قبلك؟ هل أنت مريضة؟ لم تتزاحمين معي؟" رمقتها بنظرة واحدة، تبدو من ذوي النفوذ، لم أجبها، فضلت الانتظار حتى ذهبت، ثم سلكت الممر، وجدت نفسي في بهو كبير، محاط برخام أبيض وسقفه وضاح مرصع بمصابيح، دخلت غرفتي وهي في الطابق الأرضي، نظرت إلى الخارج فإذا بالسماء آخذة في الاصفرار وكأن الجو الحار هاجر إلى هنا برفقتنا. تهللت أساريري وأنا واقفة أقرأ الإيميلات، فجامعتي التي منحتني شرف تمثيلها أدرج اسمها ضمن أرقى الجامعات. رن الهاتف فأسرعت، علما أنني كنت أنتظر مكالمة من أفراد من أسرتي يقطنون التايوان، علمت أن أبي سبقني بالسفر إلى التايوان، ولكن لم يكن الأمر بالنسبة له بعثة، إنما مجرد سياحة، لا أجد من يدلني أكثر من أسرتي هنا، تواصلت معهم، لديهم متسع من الوقت لأخذي في نزهة حول المدينة، يا له من نظام فائق! الناس يستيقظون في الصباح ويتوجهون إلى العمل، يعتبرون أن الواجب له قداسته والشوارع تتسم برونق خاص، ذكرتني الأسقف الحمراء بمدينة مراكش.

أكثر ما يميز فن الطبخ هنا هو الأرز الكامل والسوشي إضافة إلى صلصة الصوجا والبهارات، حقا مدينة لها مميزاتها. أسرتي هنا كلهم يتهافتون على هذه الأكلات التي جلبتها لهم من وطننا، يتذوقونها كما لو أنهم محتاجون تماما لمن يذكرهم بجمالية موطنهم الأصلي، أخرجت من حقيبتي بعض الهدايا، فاتنة رائحة عطور باريس التي اشتريتها من الطائرة، كم هو فعلا فعال مصرفي البنكي حيث خول لي بطاقة ائتمانية دولية يمكن أن أقتني بها من كل أرجاء المعمور، بل وحتى أثناء تحليقي في السماء. هذا العطر فريد من نوعه، إنه مستورد من مكة، عطور الشرق ممتزجة برائحة القداسة دائما، أهديته لعمتي، ففيها أشتم رائحة والدي.

انحنيت اليوم من كثرة الجري، وكأن كل الطرق تؤدي إلى روما، فتايوان بها من القناطر ما يجعلك في دوامة، تدخل وتخرج وتجد نفسك في نفس المكان. هيهات هيهات، ليس الأمر كذلك، إنما هي العمارات وألوانها والمراكز التجارية وأسوارها والمدارس والمعالم الأثرية. كل المعمار جميل يبهج ناظريه، ويحثهم على الزيارة، يتشابه عند من لا يعرفونه، مختلف ومتميز عند من يحفظون خصوصيته وهويته وأسراره وكينونته، يا ليت الصبا يعود يوما، ركضت لمدة خمس كيلومترات، ولو عاد بي الزمان إلى الوراء لركضت أضعاف ذلك، سمعت أن عمتي احتفظت ببعض صور العائلة، لذا سوف نتناول الغذاء عندها اليوم، تقطن وسط تايوان، خرجت للقاء أكاديمي، دورة التكوين هذه متميزة، ألتقي فيها رواد أجانب في ميدان إحياء العلوم واللسانيات التطبيقية والأنثروبولوجيا، إضافة إلى علوم التربية واللغات...  يبدو رئيس الجلسة اليوم رجلا وقورا له باع طويل في العلوم الحقة والرياضيات، إضافة إلى تمكنه من أربع لغات من بينها العربية، اقتربت منه فقابلني بابتسامة عريضة، لغته رصينة وثقافته واسعة، ولكن التواضع سمته التي جعلت الكل يلتف حوله، فعلا رجل فائق، له مقالات في العديد من المجلات، ناولني أحد الجالسين في اللقاء البرنامج، يبدو زاخرا ولا أريد أن أفلت أيا من النقاشات، سرحت لهنيهة، طاف بي خاطري وراودني إحساس أن أوطاننا مثل المرافئ، نظل نبحر في سفن المعرفة وغيابات العلم ثم نعود إليها، إنها رصيدنا الذي لا ينفذ وثقافتنا التي نعتد بها وملاذنا الذي لا مثيل له.

سافرت في ربوع العالم ولكن رائحة الوطن لها طعم خاص، كل شيء يتحرك ولكن المعرفة بالشيء ليست كالجهل به، ظننت لبرهة أنني مادام لي وطن فلا يهم إن كان البحر هائجا، فحتى حركة الأمواج إنما تستقي منحى وجودها من ذلك الهواء القادم من مرفإ الوطن. قال لي أحد الحاضرين إن كنت أرغب بتناول وجبة الغذاء رفقة الجميع، ترنحت قليلا، ثم سمعت صوت معدتي الفارغة فأحببت أن ألتحق بهم، كان الأكل عبارة عن أرز محمص ودجاج و شوربة، تذكرت الشاي فإذا بأحدهم يحضره،  شاي أخضر صيني فاخر أحببت طعمه و لونه والنكهة التي يتركها في فمي، عمتي قابلتني بالعناق والزغاريد والتمر والحليب، هكذا حافظت على تقاليدنا وهي في بلاد المهجر، أكلها صار مخضرما، تذكرنا حين كانت هي ووالدي يتنافسان حول من يستقبل في بيته ضيوفا أكثر ومن يقدم وليمة أكبر، ساد عرف لا يزال ساري المفعول أن من يحبه الله يحبه الناس أيضا، وهكذا كان سلفنا وعاشوا بقيم المحبة وحسن الجوار والزهو بكثرة الضيوف والأقارب، صار هذا الآن من الماضي، فالأسرة النووية لم تعد كالممتدة، وغالبية النساء يشتغلن خارج البيوت، صارت بنية الأسرة مختلفة تماما عن سابقتها.

خرجت من بيت عمتي وأنا أحمل الكثير من الأحاسيس الجميلة إضافة إلى الأكل الذي أبت إلا أن تذيقني من كل أصنافه، خرجت وقد غربت الشمس، ابتل معطفي من فرط رذاذ المطر، أعشق رائحة الأشجار والتراب المبتل، كل شيء يوحي بأن الليلة ستكون باردة، ولكن دفء ذكريات اليوم جعلني أحتفظ بالدفء المعنوي، حقا حتى الجو الملموس هذا لا يرقى لكُنْه الحقيقة، فهي نسبية تعتليها أفكارنا وذكرياتنا وصورنا وأوقاتنا، بل وحتى كلماتنا التي لم نبح بها، صار الهدوء يعم المكان دق جرس ساعة الفندق ليعلن الثانية عشر ليلا، صعدت إلى غرفتي لأخلد للنوم. يا له من سكون يخيم على المكان!

نفذ صبري وأنا أحاول الإجابة على بعض الرسائل، يظن البعض أن التكلم بأدب واستعمال الألفاظ الراقية وتوخي الدماثة دلالة على الجبن والخوف، بيد أن حقيقة الأمر أن ذلك سمة قوة واتزان، ولكن حتى حين نظن أن الآخرين لا يستحقون تعاملا راقيا فلا بد من تبنيه، ليس من أجلهم ولكن من أجل أنفسنا لأننا نستحق أن ترقى ذواتنا دائما، نستحق ألا نأبه للسفاسف ولا نتوجس من الهذيان، وألا نشتغل عن ذواتنا إلا بذواتنا، هنيهات قضيتها أتأمل، رأيت فيها نفسي تتوسطني الأفكار وبناتها، والأحاسيس وخلجاتها والمشاريع وأدواتها، سقط مني قلمي، وفي لحظة رأيته يقترب كأن الأرض أبت إلا أن تعيده لي، علقت قائلة "شكرا" كما لو أن الأشياء أيضا يمكنها التفاعل، انسجمت مع هذا الزمكان و صرت منه وهو مني،  خلدت للنوم وأنا أردد سورا من القرآن...

قصة: ذ. سناء السكال (المغرب)



تعليقات