بعد نوم متقطع تتسارع فيه عقارب الساعة وتراكمات الذات الباطنية، يدق صوت جرس المنبه على الساعة السادسة صباحاً، بشجاعة هائلة وعظيمة يتطلبها النهوض من السرير كل صباح لمواجهة اﻷشياء نفسها… ركام من أحزان تتسلل إلى جوارح الفارسة، تستيقظ في جو من الجهد الروحي وفي أبعاد خاصة، ترتدي ملابسها لتعانق تكرار الأيام كعادتها، لا شيء جديد، اللهم وجوه تلتقيها في الشارع، الحافلة، الجامعة…
تخرج في اتجاه المستقبل الذي اعتقدت أنه بعيد جدا، تنتظر الحافلة كعادتها وبجانبها نساء ورجال أنخر الفقر أجسادهم، وبعض الطلبة اعتادت مرافقتهم في الحافلة… تأتي الحافلة محملة ببقايا أشخاص اعتبروها وسيلة للكفاح والتخلص من أعباء ثمن سيارة الأجرة، تركب الحافلة وتبحث عن مقعد يستجيب لقهقهات باكية، تجلس الفارسة وتحط رأسها على النافذة، تتذكر كيف كانت بالأمس محاربة صلبة وفارسة همامة بعد أن جلدتها شموع وصقيع الجامعة، بعد أن داست في فؤادها الأقدار وذبلت في وجهها الورود والأزهار… كانت تعيش ربيعا خالدا مليئا بعشب أخضر وورود حمراء، انخلع نورها وأصبح هاربا بلا زمام… فجأة فكرت بعمق وتذكرت أنها عازبة عانس حسب خلفيات مجتمعها، يدرك ذلك لكن لا يقولها جهارا، كل ما في الأمر جدة حنونة وجارة مسنة ثرثارة تفترضان أنها كبرت ووجب عليها أن تتزوج، لكن المجتمع القريب يرى أن أي نجاح تسايره وتحققه هو في الأصل علة تؤخر الزواج، أو بالأحرى لا تسهل عملية الفوز بزوج ينقذها من بطالة العنوسة…
تجمع الفارسة قواها وتطلب من السائق أن يتوقف… تنزل من الحافلة تنتظر بعض الوقت ليستريح جسدها المنكسر بحياة لونها الأسود القاتم، تلقي نظرتها على ملابسها وتشطف الغبار العالق بحذائها وسروالها البسيط، تحاول إخفاء آلام وتعب الحافلة بمساحيق تجميل، خصوصا أحمر الشفاه الذي يخفي زرقة متاعبها ويسكِّن آلامها التي تظهر على شفتيها… تعانق أسوار الجامعة بصدر رحب وابتسامة عريضة خفيفة، ترتسم معالمها على شفتيها القرمزيتين وعينيها العسليتين.
تطلق العنان لذكاء صبرها الذي يسعى لجمع أكبر عدد ممكن من الشواهد الجامعية، وبداخلها قوادم لأحلام منكسرة، إنها فعلا تجربة ومهارة ببرايا شقية مجنونة، درست فوجدت حظها مجرد شيء حقير لوثته الحياة وجعلته شريرا يبذر العالم ويعكر جوه، فحصدت الشوك من تجربة الحياة، تتساءل هل أسرع عمر الثلاثين في مجيئه؟ هل تأكدت أن عمر العشرين غادرته بحلوه ومره؟ ها هي تقف أمام ورطة الأسئلة ووراءها جروح تحاول أن تداويها بضمادات الإلحاح والإصرار حتى تحقيق المراد.
تقضي ساعات داخل قاعة المحاضرات، تدوِّن كل ما يقال وتكتب كل مداخلات زملائها… الجهد متواصل في ذكاء خارق وحنكة قوية، وهو مفتاح لإطلاق قدراتها الكامنة في الحفاظ على ارتسامات ابتسامتها التي تتمنى أن تفوح رائحتها وسحرها برونق قناعة الأمل والطموح في تحقيق إنجازات وجهود تقشعر لها الأبدان وتجف لها الألسن وتذرف لها العيون دموع الفرح لتجعل حبر قلمها يفيض ويختار أن ينهي التفاصيل هنا…
قصة: أسماء أهمو (المغرب)