لا أحد يعلم قصتها، يتعجبون من هدوئها، ولكن ينتبهون أكثر لجمالها، وأناقتها، وبرغم كل هذا الجمال، إلا أنه لم يُخفِ نظرات عيناها التي يسكنها الحزن، وتفشي سره ابتسامتها الغائبة على الدوام، تكتفي بالتحديق للزهور بجوارها، أو بإحدى صفحات كتابها، التي لا تطويها، وربما لا تعلم ما الذي كتب فيها.
أيتها الجميلة بالرداء الوردي، من سرق سعادتك؟ من ألقاك في وحدتك؟ من السهل معرفة أنك وحيدة، فلم يشاركك أحد تلك الجلسة طوال سنوات، ولا نعلم عنك الكثير، يبدو أنك من بلدة أخرى، تأتين لترتشفي قهوتك تلك بطعم الذكريات، التي تُخفيها، فيا تُرى من كسر قلبك؟ من وضعك بهذا الحال؟
استجمعت شجاعتي، أخذت القرار بأن اليوم لن يمضي دون أن أحدثها، لن أعتبر هذا تدخلاً في حياتها الخاصة، لأن بعقلي فكرة واحدة، أنها تحتاج من يقتحم وحدتها، ويخفف عنها ألماً لا يعلمه إلا الله.
اقتربت بحذر، جلست على مائدتها، كنت أخشى غضبها، لكنها لم تفعل، نظرت لي بذات العينين، كأنما ترجوني الحديث، نعم.. هي تود الراحة الآن، الفارق بيني وبينها كبير، لكنها كانت تحتاج الونيس، أو تحتاج لأخت صغرى تتحدث معها، طلبت بعض الشاي الساخن، وصببت لها كوباً منه، سألتها عن ألمها، عن صمتها، عن جرحها الذي تخفيه، ما الذي يسكن بتلك العينان؟ من قتل السعادة بداخلها؟
العجيب أنها لم تحاول أن تُخفي، أو تسألني وما شأنك؟ لابد أنه وقت البوح، أن صدرها ضاق بحملها الثقيل، وآن للسر أن يخرج من بين الضلوع، أخبرتني أنها أحبت إنساناً، وكانت أول مرة تعلم ما هو الحب، خططا لسنوات لحياتهما معاً، ساعدت بكل ما تستطع لبناء العُش الجميل، لم يهمها التعب والسهر والعمل لساعات أطول ، كانت لا تنام سوى ساعتين أو ثلاثة، باليوم كله ، وتقول لا يهم، غداً سأستريح، كانت تراه الحبيب والزوج المستقبلي، تثق فيه تمام الثقة، لم يكن من السهل قبله أن تعطي مشاعرها لمخلوق ، و بعد سبعة سنوات من الكفاح، اختفى، اختفي بمالها، اختفي دون سابق إنذار، اختفي وكأنما لم يكن حقيقياً، بحثت عنه بكل مكان، لشهور، لسنوات، لتعلم بسبيل الصدفة أنه سافر للخارج، دون إعلامها، وأنه تزوج، نعم تزوج بفتاة أخرى لينال الجنسية، و أنه لن يعود .
كسر ما حدث فؤادها، وجرح المشاعر أقوى من نصل السيوف، فقدت الثقة بأية شخص، عاشت، ولكن بدون حياة، لم تعلم فيما أخطأت؟ ولا لماذا نالت هذا المصير؟ لكنها قطعت عهداً على نفسها، بأنها لن تستسلم للحب مرة أخرى، لن تُفكر في أي إنسان، ولو حاولت غير ذلك، ستتذكر مرارة التجربة، المرارة التي لا تترك قلبها، وسرقت البسمة من شفتيها.
عَلِمتُ أنه مر على حالها هذا خمسة عشر عاماً، وبرغم قتله إياها، إلا أنها تأتي لنفس المكان الذي شهد لقائهما الأول، كي لا تنسي، ولأنها تجد فيه فقط السلوان، فهل لازالت تحبه؟ هي لا تعلم، يبدو أنها سقطت بصدمة لم تفيق منها للآن.
الأعجب أن بتلك الليلة التي باحت فيها بما يرسخ فوق قلبها، رأيت أنا وإياها، رجلاً قارب الخمسين، يمشي بهدوء باتجاه طاولتنا، نظراته لم أفسرها، ونظرتها النارية له جعلتني أدرك فوراً أنه نفس الشخص.
ركع على ركبتيه أمامها، طلب منها الصفح، أقسم أنه لم يفكر بسواها كل تلك السنوات، حاول أن يعيش ويقتل ذكراها، لكن وجهها يطفو فوق كل الذكريات، اعتذر وطلب منها أن تقبل الاعتذار. قفت الجميلة الرقيقة أمامه، اعتقدت أنها ستفرح بعودته، ستنسى كل ما أوجعها، فمعنى أنها تأتي دوماً للمكان، أنها لا زالت تُحبه، ولم تنساه، أنه آن الأوان لرمي الماضي، والعبور للسعادة، لكنها كانت تملك من الكبرياء مالم يمكنها من نسيان ما حدث، وجرمه كان أكبر من الغُفران، أشاحت بوجهها عنه، اكتفت بأن يعود ذليلاً بعد كل تلك السنوات، لتهون على نفسها، رأيتها تبتسم بسخرية، قالت: ارحل ولا تعود.. ليتني لم أرك…
قصة: ريهام السعيد (مصر)