رواية متوسّطة الحجم (188صفحة)، تحوي تسعة فصول مُعنْونة ومرتّبة تاريخيّا. بداية من سنة 1985 وصولا إلى سنة 1995، ماعدا الفصل الثاني قدمته الكاتبة 3 فصول لغرض يخدم الرواية أراه ذكاء منها ثم عادت للتوضيح في الفصل الذي يليه. إذن، بمجرّد تقليب العناوين وقبل الخوض في القراءة نستنتج أنّ الحقبة الزمنية التي تسرد الأحداث تدوم عشر سنوات وهي تدقيقا العشرية الأولى التي تم فيها إرساء نظام ثان للدّولة التّونسية منهم من يسمّيه التحوّل المبارك ومنهم من يطلق عليه نظام الاستبداد.
دلالة العنوان (الفرناڨ)
لغة: كلمة وردت مفردة ومعرّفة بالألف واللام، أي أنّ المقصود فرناڨ معيّن ومحدد.
اصطلاحا: الفرن fornax كلمة جاءتنا من اللاتينية، بالإنجليزية furnace بالفرنسية fournaise. ومن يمتهنها يسمى فرانقي fornacalia. من مساوئها كثرة الحرارة والدخان.
الفرناڨ المكان:
تجلى جيدا في الرواية، الفرناڨ في حمام آل الدرغوث وهذا الفرناڨ ظهر في روايتنا هذه بالتوازي مع شخصية البطل يحيى الفرانڨي (المازري) مع تكاثف للمعجم اللغوي الخاص بالنار أسماء وأفعالا وصفات (حرارتها، جحيم، النحاسة، الغليان، اللهب، تلهبها، يغلي) صفحة 13.
هذا المكان الذي أكل شبابه ويوما بعد يوم أكلت نار الفرناڨ الحارة قلبه، فأصبح الفرناڨ مكانا بلا حياة تفوح منه رائحة الموت كما يفوح دخان الحطب المحمي بلهيب النار.
ومن هنا يختار المازري أو يحيى وهما اسمان لشخص واحد، أن يكون الفرناڨ مقبرة لـ(كيدة) و (نورا) و ابن الحارزة، وهم شخصيات بسيطة من رواد الحمام ، رموز الفقر و التهميش.
اختار الفرانڨي أن يقبرهم في ذات المكان الذي قُبر فيه قلبه وروحه ظنا منه أنه ينهي عذاباتهم وآلامهم من حياة بائسة.
القبو: مكان مخصص لتعذيب الفئة المعارضة للنظام يتسم بالعتمة والظلمة الحالكة (السواد الحالك في قبو كأنه قبر الغيلان حين يجد كل واحد نفسه وحيدا بين أيادي جلادين يتلهون به ليلا وبعض نهار…) صفحة 79.
هذا القبو هو الفرناڨ الثاني الذي يعترضنا في هذه الرواية ومعه تُسرد عديد الحكايات ونشتم فيه رائحة الدم والموت مرارا وتكرارا، ويبقى الفرانڨي هو الجلاد.
هناك لقي حتفهم العديد من الطلبة مثل الطالب الڨابسي و بنت عمة الفرانڨي…
هذا فرناڨ التقلبات السياسية وقوده فئة من المعارضين اليساريين والطلبة و التيار الاسلامي حينها، وكان له أثر سلبي عظيم في المجتمع، أثبته تسلسل أحداث الرواية تباعا.
عين تونقة، الفرناڨ الثالث الذي أضرم ناره الفقر والبؤس والشقاء والتهميش، فنجد عين تونقة منطقة نائية بعيدة عن التجاذبات السياسية. منطقة منسية وكأنها ليست رقعة من الوطن، فالتهمت نار فرناڨها أبناءها تباعا بداية من المازري وريحانة وصولا إلى بنت العمة الطالبة المعارضة.
الفرناڨ بتجليات شتى:
فرناڨ القيم والمبادئ الخانقة.
فرناڨ التفرقة: تضادات مدينة/ريف، غني /فقير، مثال معارضة صفوان الدرغوث زواج أخته من يحيى الفرانقي رغم كبرها في السن، ريحانة وعزوز.
فرناڨ التبعية والذل والنظرة الدونية للمرأة.
فرناڨ العلاقات الدولية حينها وتأثيرها على العمال مثال طرد “الريماني” من ليبيا وعودته بخفي حنين.
فرناڨ العنصرية.
فرناڨ المشاعر: الحقد والكره والانتقام (العلاقة بين دولا و المازري ربيبها).
فرناڨ الحب الذي أودى بحياة الطالب الڨابسي إلى الموت.
خاتمة:
ملخص القول، الفرناڨ هو جمع لهموم الواقع التونسي المسكوت عنه آنذاك والذي مازالت بقاياه تترصدنا إلى يومنا هذا.
شادية القاسمي رصدت جانبا قاسيا جدا من الحياة الاجتماعية والسياسية آنذاك بحبكة نسجت خيوطها بخفة ورشاقة تجعل القارئ لا ينام ليلته حتى ينهيها.
هي رواية الترحال بامتياز من مكان إلى آخر هروبا من الفرناڨ لتقع الشخوص في فرناڨ أكثر لهيبا. تذكر مثال: ريحانة التي هربت من الريف خوفا من “دولا” أمها إلى المدينة التي افترسها ذئابها. هربوا بحثا عن الهدوء والاستقرار بلا جدوى.
رواية تستحق التأمل والحديث فيها مازال يطول.