أذكر تلك الأيام الجميلة بحُلْـوها ومُرّها التي مرّتْ على مباشرتي لمهنة التعليم في إحدى المدارس الريفية، ولا أنسى كيف شمرتُ على ساعدي العمل منذ العودة المدرسية، وأدركتُ أني في لهيب الفرن فعلا وقولا، ولم أتأخر في توفير أسلحة العمل حولي، فكان دفتر إعداد الدروس والمذكرات والكتب التربوية والملاحق البيداغوجية والملفات والمشخصات واللوحات التعبيرية والخرائط وكراسات القسم والمعلقات الرسمية، وحوّلتُ جدران القسم إلى لوحة تشكيلية رومانسية تزيد المكان رونقا وجمالا وتدعو أطفالي إلى الإقبال على دروسهم في شغف، وهم القادمون منذ الصباح الباكر من البوادي والدشر والحارات المتناثرة بين الروابي والجبال قرب الأودية ومجاري المياه والحقول الغناء، إلى أن زارني المتفقد البيداغوجي ذات صباح من أيام شهر جانفي القارس، وكنت وقتها أرى في نفسي المعلم اليافع القادم على مهل والعاشق لمهنته، وحاولتُ أمام ضيفي أن أقلد المعلمين الأجلاّء الذين درستُ عندهم فتأثّرتُ بهم وما زلتُ أحتفظ بصورهم.
وعلى مدى ساعتيْن من الوقت، وقد أحسستُ أنه يسرع لا يلوي على شيء، ظللتُ أمرّ بين المواد التعلّميّة والمفاهيم المعرفيّة بسلاسة وقد وجّهتُ الفصل حسب مشيئتي وطبقا لأوامري، فالصّمتُ يخيّم على الفضاء والانضباط سيد الموقف، وأنا كضابط يقود عساكره في رهبة وخشوع، وكنت أترقب أن يكون الجزاء على قدر هذا العطاء، وسأنال من زائري شهادة الشكر والتقدير وفي ذهني سؤال مثير ظل يدغدغني: كيف لهذا المعلّم المبتدئ أن يقود مملكته بحزم وجدّ وحنكة لا مثيل لها ؟ حتما لا يقدر على هذا الفعل إلاّ جهابذة الفكر والتدريس دون جدال أو شكّ.
انتهتْ الحصة الصباحية، وتفرق تلاميذي، ودعاني المتفقد إلى جواره فربّت على كتفي وأعلن سقوط إمبراطوريتي التي لا تعرف شيئا عن الديمقراطية وحرية الرأي، وأبرز لي أن مدرسة الصبيان لا مكان فيها لمربّ دكتاتور متغطرس يهوى الأمر والنّهي، ولا يتأخر في طمس هويّة وشخصية الطفل، وقد وجد نفسه بين قضبان قفص من حديد قُطعتْ يداه ولُجم لسانه يكاد ينفجر في مقعده، ودعاني لقاء خبرته وتجربته، أن أفسح المجال لأطفالي كي يتكلموا بحرية وتلقائية، وأن أشجعهم على الحوار والنقاش وإبداء الرأي والتفكير في الخلق والابتكار، وأن أدربهم على الافتراض والملاحظة والتساؤل والتجريب والاستنتاج، وأن أخلق لهم فضاء رحبا ليتنفسوا فيه فيعبّرون عما يختلج داخلهم من أحاسيس ثم يقدمون بدائلهم واقتراحاتهم وأفكارهم بكل رحابة صدر.
وقتها كانتْ فرصتي الأولى التي اغتنمتها ولم أفرط فيها لأنطلق في مهنة التعليم كأحسن ما يكون على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
ركب المتفقد سيارته الزرقاء، واتجهتُ أنا إلى جانب المسرب الطويل أنتظر حافلة النقل الريفي قبل أن يفاجئني مطر سحاب بدأ يغطّي ظلامه المكان فجعله موحشا لا حياة فيه.