📁 آخر الأخبار

فرجة المسرح الشعبي المغربي بين المقدس والمدنس "بُو الْجْلُودْ أنموذجا" / طارق العلوي الحسني

 فرجة المسرح الشعبي المغربي بين المقدس والمدنس "بُو الْجْلُودْ أنموذجا"

توطئة

تعتبر ثقافة المغرب واحدة من أغنى الثقافات العالمية، وذك راجع أولا إلى موقعه الجغرافي المتميز؛ الذي مكنه من الانفتاح على مختلف الحضارات البشرية، سواء تلك القادمة من الشرق أو من الغرب، كما يرجع، هذا الغنى الثقافي، ثانيا إلى تنوع بنيته الديموغرافية (أمازيغ، عرب، ويهود)، حيث طبعت كل مجموعة إثنية و/أو دينية الثقافة المغربية ببعض بصماتها (الفنية، الفكرية، والطقوسية و...)، وهو الأمر الذي برز بشكل كبير في مجال الفرجات الشعبية التي تلتقي كلها في عناصر التمسرح.

ورغم أننا لم نكن نتوقع الدخول في ذلك النقاش العقيم الذي تناول مسألة تاريخ تعرف المغاربة خاصة، والعرب عامة، على فن المسرح من عدمه (أي التطرق إلى مسألة تأصيل المسرح المغربي والعربي)، على اعتبار كوننا نجده نقاشا أسال المداد الكثير، وساهم في إهدار جهود الفكر العربي لعقود طويلة، إلا أننا وجدنا أنفسنا، من دون أن نشعر بذلك، ننبش في ذاكرة الموروث الثقافي المغربي بحثا عن مدى حقيقة تجذر الفرجة الممسرحة أو التمثيلية في الثقافة المغربية.

I.     فرجة المسرح الشعبي المغربي: - بين الحضور والغياب –

سننطلق في محاولة إثباتنا لوجود هذا النوع الفرجوي في الثقافة المغربية من التشكيك في مدى صلابة وقوة الرأي النقدي الذي يذهب فيه أصحابه إلى أن " في تأصيل المسرح العربي إقرارا بعدم تأصل هذا الفن في التربة العربية، وتأكيدا لكونه – بشكله الحالي – فنا غربي المنشإ وفد على العرب وثقافتهم في العصور الحديثة "[1]، فإذا كنا قد نقبل، على مضض، القول إن المسرح بمفهومه الحديث لم يصلنا إلا بفضل الاتصال بالثقافة الغربية، إلا أن قبولنا بهذا القول لا يعني تسليمنا به بالمطلق، خاصة وأننا وجدنا استعمالا لكلمة " المسرح " في الثقافة العربية قبل منتصف القرن التاسع عشر، الذي يعتبره أغلب النقاد هو تاريخ اقتحام المسرح للساحة الثقافية العربية، بحوالي ستة قرون، وذلك مع الفنان المخايل ' محمد جمال الدين بن دانيال'[2].

فالممارسة المسرحية موجودة " في كل مكان، ومن قديم الزمان، وكما أن جميع الأطفال يتميزون بحبهم للتقليد والتشخيص، فكذلك الأمر بالنسبة للشعوب في مرحلة طفولتها. إن أي نوع من أنواع التحول يعتبر بمثابة التشخيص، وقد ظهر الأخير في المواكب الاحتفالية الممسرحة في كل مكان. في الطقوس والعادات الغنية بالعناصر المسرحية وفي اللوحات الدينية. ومع مرور الزمن أفعمت هذه الطقوس الفلكلور الذي تزخر به كل الشعوب، وبهذا أصبح لها طابع دنيوي، ثم تحولت بالتدريج إلى عروض مسرحية."[3]

الأمر الذي يجعلنا نحسم ونقول "– بكثير من الوثوق – إن العرب والشعوب الإسلامية عامة، قد عرفت أشكالا مختلفة من المسرح ومن النشاط المسرحي لقرون طويلة قبل منتصف القرن التاسع عشر"[4]، وهي الأشكال التي كانت أساس الفرجة الشعبية بالمغرب، وقد أطلق النقاد عليها تسميات كثيرة من قبيل: ' أشكال ما قبل مسرحية '، ' ظواهر مسرحية '، ' مظاهر تمثيلية '، وغيرها من التسميات التي تحوم بها حول جنس المسرح لكن دون أن تدخلها صراحة ضمنه، فهي بالنسبة إلى هؤلاء النقاد عبارة عن " أشكال مجهضة من المسرح "[5]، تحوي بعض المظاهر التعبيرية التي رأوا أنها " لم تكن كافية ليتم فيها نمو المسرح الذي ظل جنينيا "[6]، فنظروا إليها نظرة دونية " معتبرين إياها مجرد أشكال بدائية بعيدة عن الفعل المسرحي "[7]، إذ لا يمكن اعتبارها، في نظرهم، إلا "... شذوذا عن القاعدة وخروجا، ولا يمكن أن يكون لها معنى المسرح "[8]، وإن كان من الممكن اعتبارها، بحسب بعضهم إذا ما نحن نظرنا إليها في عمقها، مجرد " محاولات مسرحية جنينية، وشكلا دراميا فطريا قابلا للصقل والتطوير"[9].

إن ما أثارنا في مختلف هذه المواقف التي تنفي وجود مسرح لدى أسلافنا، هو وقوفنا – وبكل أسف – عند سعي أصحابها الحثيث وراء إثبات أنموذجية المسرح الغربي، عنوة، متناسين أنهم بفعلهم هذا يساهمون في ترسيخ الأفكار العنصرية التي تتحدث عن دونية العقل العربي وعجزه عن خلق أساليب فنية خاصة به يعبر من خلالها عن نفسه كما فعل ذلك غيره، ولعل هذا ما نفهمه من قول 'حمادي بن حليمة': " إن نظرة سريعة على الإنتاج الأدبي العربي إلى حدود القرن التاسع عشر تظهر لنا أن الشاعر أو الناثر يفتقر إلى النفس وإلى الخيال. ولذلك فإنه سيكون من العبث أن نبحث في مجتمع يتميز بمحدودية الأفق الفكري، عن فكر مهندس معماري، وهو الفكر الضروري لأي إبداع مسرحي."[10]

إن هؤلاء النقاد المستلبين بفعلهم هذا ينسون – أو على الأصح يتناسون – أنه لا مجال للمقارنة بين الفرجة الشعبية العربية عامة، والمغربية خاصة، والمسرح الغربي، لأن فعل المقارنة هذا فيه الكثير من الظلم والتجني في حق فرجاتنا الشعبية، ذلك أن " المعاني التي حكمت الفرجة الشعبية إلى معيار النموذج المسرحي تستدعي في الأذهان مقارنة ومضاهاة بين النوعين تنتهيان دوما إلى تفضيل الأول النموذجي والكامل على الثاني الناقص والعاجز. وبهذا الشكل يتكون الذوق لدى المتلقي المحلي مشوها ومحرفا ومشبعا بأحكام التنقيص والتسخيف في تحاوره مع مختلف أنماط الفرجة الشعبية ومظاهرها، والذي هو أس التفضيل الجمالي والمعرفي ومرحلة إستراتيجية هامة في التلقي."[11]

إننا نرفض كل ربط أو مقارنة للفرجة الشعبية المغربية المشخصة أو الممسرحة بالمسرح الأوروبي؛ فلا يجب أن ننجر – بأي حال من الأحوال – إلى المقارنة بينهما؛ لأن في ذلك إجحافا نلحقه بأحد أهم مكونات ثقافتنا الشعبية، الأمر الذي سيساهم في تعرضها إلى المزيد من التهميش.

فإذا كان من البدهي أن كل مجتمع يبدع أشكاله الفنية التي تعبر عنه، وإذا كان الغربيون قد عبروا عن أنفسهم من خلال مسرحهم الأوروبي، فإن المجتمع المغربي خاصة، والعربي عامة، لم يشكل الاستثناء بل إنه تمكن بدوره، خلال مسيرته الثقافية الطويلة، من إبداع فرجات شعبية شكلت، في رأينا، نواة المسرح لديه، ولِما لا شكلت مسرحه الخاص؛ الذي وإن كان يحمل في طياته بعض التقنيات الموجودة في المسرح الغربي، إلا أنه عبر عن الذات المغربية الخالصة، " فكانت فرجاته الشعبية التي يتنفس ويبدع من خلالها الفنانون، القصة، والحكاية والمثل والأسطورة والأغنية والرقص، هي مسرحه الذي سجل عاداته، وتقاليده، واحتفالاته، وحكاياته وأساطيره.[12]

وإذا كان 'حسن المنيعي' يرى أن المسرح في الأصل عبارة عن " حفل ديني تقيمه مجموعة إنسانية لتحتفي بشعيرة زراعية (الإخصاب مثلا) تقوم على مشاهد نرى فيها إلها يحتضر ليحقق حياة أفضل، أو سجينا يواجه الموت، أو استعراضا دينيا، أو حفلا تهتكيا Orgiaque أو كرنفالا منظما..."[13]، وبما أننا نجد أشكالا فرجوية مغربية خالصة تقوم على أصول مسرحية من خلال "اهتمامها بالمقدس أو لاندراجها في الممارسة اللعبية، ...، تقوم بالأساس على فنون الحكي والرقص والموسيقى والغناء والإنشاد، كما أنها تعنى بالحركة والارتجال في القول"[14]، فإننا نرى – من خلال كل ما تقدم – أن نسمي هذه الفرجات: 'فرجة المسرح الشعبي المغربي'، وهنا نحن نتفق مع ما ذهب إليه 'عبد الله ستوكي' من أننا "نجد أنفسنا أمام مسرح مغربي أصيل يستحق الاعتراف وحتَّام نعاند أبدا، فلا نسمي مسرحا إلا ما كان ذا قالب غربي؟"[15]

فكيف ظهرت هذه الفرجة في الساحة الثقافية المغربية؟ وما هي أبرز أنواعها وخصائصها؟ وما هي أوجه المقارنة بينها؟

II.     جذور فرجة المسرح الشعبي المغربي

لقد كان الإنسان منذ القدم ممثلا بطبعه؛ لهذا أنتج فرجات تمثيلية/مسرحية باستمرار، وذلك إما محاولة منه للتواصل مع غيره من أفراد جماعته، أو للتعبير عما كان يطبع حياته اليومية من أحداث مهمة فالمسرح كان ولا يزال هو مدرسة الشعب ومرآته في آن واحد، فهو مدرسة لأن منه ينطلق الوعي، وعلى خشبته تمارس التربية الحقة، دينية، وأخلاقية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، وبواسطته يدرك الشعب حقيقة نفسه وأوضاعه، ومنه يطل على حاضره وماضيه، ويتطلع إلى مستقبله، وهو مرآة لأن عليه تنعكس درجة الوعي التي وصل إليها الشعب، والمرتبة الحضارية التي تبوأها، فكما يكون يرى نفسه على مسرحه، لأن المسرح ابن بيئته.[16]

وتؤكد المصادر التاريخية، بما لا يدع أي مجال للشك، إبداع الإنسان المغربي، هو الآخر، لفرجات شعبية ممسرحة منذ القدم، إذ " تحتوي جل المدن المغربية الرومانية على (كابيتول) وعلى (مسرح)، وبدون شك فإن هذا المسرح كانت تمثل فيه روايات تكتب تارة باللغة الرومانية، وتارة أخرى بالإغريقية باللغة القومية واللهجة العامية، وهذه الروايات التي تتردد بين الجودة والضعف، كانت مرة هزلية تشوق الطبقة الشعبية بما تشتمل عليه من هزليات ومواعظ وألوان من الفلكلور المحلي، غير أن الزمان لم يحتفظ لنا بشيء من ذلك، وإن كنا نعرف أن هناك بقايا حكايات ونوادر وأقاصيص على ألسنة الحيوانات أوردها الكاتب البربري (أبوليوس) وكانت تمجد الفروسية والبطولة "[17].

فالفرجة المسرحية، على هذا، انتشرت في كل ربوع المغرب، بفعل ما فرضته ضرورات الحياة من تنقل للسكان من منطقة لأخرى، فلم تبق بذلك حبيسة المدن الرومانية فحسب، ولعل هذا ما نفهمه من الأستاذ 'عباس الجراري' عندما أكد على " أن المغاربة تأثروا بالقرطاجنيين ثم الرومان بعدهم، ومارسوا فن التمثيل القائم على الأناشيد والحركات الراقصة، التي تؤدى بها الطقوس والشعائر الدينية والتي ترمز إلى التوسل بالآلهة "[18].

هذا وتجدر الإشارة إلى أن بعض الممارسات "المسرحية" التي شكلت عماد الفرجة الشعبية بالمغرب، خلال هذه الفترة، قد ضاعت وتلاشت كليا؛ خاصة وأن المغاربة تخلوا بشكل كلي عن هذه التقاليد المسرحية خلال الفترة الأولى من الفتح الإسلامي للبلاد، وذلك " راجع إلى أن هذا الدين جاء بثقافة جديدة، وأنهم لم يجدوا في نطاق ثقافته حاجة إلى التعبير بالمسرح على الشكل الإغريقي الروماني الذي عرفوه. إذ لا يخفى أن هذا المسرح كان يُتوسل به في أداء الطقوس والشعائر الدينية، فضلا عن أنه كان مرتبطا بالصراع، ولاسيما في مواجهة القضاء والقدر، والدين الإسلامي يحد من هذا الصراع ويحث على الطمأنينة النفسية بالدعوة إلى الإيمان بالقدر خيره وشره."[19]

لكن، في اعتقادنا، هذا الرأي يجانب الصواب؛ فعلى الرغم من أن الإسلام يمنح القدرة المطلقة على الفعل وإرادة الفعل للإله وحده سبحانه وتعالى، إلا أنه لا ينفي عنصر الإرادة عن العباد، بل، أكثر من هذا، إنه لا ينفي عنهم حتى عنصر القدرة على الفعل في أمور معينة، وإلا فلن يكون هناك أي معنى لكل من الثواب والعقاب في غياب تمتع العباد بهذين العنصرين. وعليه فإن الدين الإسلامي لم يمنع المجتمعات، ومن بينها المجتمع المغربي، " من معرفة أشكال مختلفة من المسرح، ...، والتي ستبرهن على تطور المسرح بشكل لا يخص المسرح الإسلامي فحسب."[20] إذ وعلى الرغم من تلاشي تقاليد الفرجة التمثيلية/المسرحية بالمغرب بعد وصول الفتح الإسلامي للبلاد، " فقد بقيت لتلك التقاليد آثارا غير قليلة تتجلى في الرقص الشعبي، سواء منه الرقص البربري والبدوي أو رقص الطوائف الصوفية"[21]. وسنعمل في هذا المقال على تسليط الضوء على نوع فرجوي شعبي مغربي تأرجح في الثقافة المغربية بين المقدس والمدنس، وحمل تسميات مختلفة في عدة مناطق مغربية، إنه فرجة " بِلْمَاوْنْ / بَا جْلُودْ / بَا شِّيخْ ". فكيف تتم هذه الفرجة؟ ومن هم شخوصها؟ وما الرسائل التي تعمل على إيصالها؟

قبل الدخول إلى عالم هذه الفرجة والشروع في وصفها وتحليلها، لابد لنا من أن نشير، في البداية، إلى أن هذه الفرجة الشعبية المسرحية المغربية، قد أخذت تسميات عدة – بخلاف غيرها من الفرجات المغربية –، ويرجع ذلك إلى انتشارها في مناطق جغرافية مختلفة بالبلاد مع ما واكب هذا الاختلاف من تنوع في البنيات الإثنيةّ؛ وهكذا كانت " تارة بُو جْلُودْ (إشارة للشخص الذي يلبس الجلود) كما في مراكش وأحوازه، وتارة هَرْماً (إحالة على الشيخ الهرم) أو هَرْماً كَركَاع أو هَرْماً بُو الْجْلُودْ مثلما يطلقون عليه في منطقة حاحا ودكالة، وفي الشياظمة يسمونه الشّْوِيَخْ (تصغير لكلمة الشيخ) ويقابله بالأمازيغية بِيلْمَاوْنْ وفي الشاوية هَرْما بُو الْبْطَايْنْ... إلخ، إلا أن الاسم الغالب في التداول هو: بُو الْجْلُودْ، بشهادة معظم الإثنوغرافيين الذين تعرضوا للموضوع (دوتي 1905 و1909 – لاووست 1921 – فاسترماك 1935)."[22]

ويذهب 'لاوست' إلى أن " كلمة ' بُو جْلُودْ ' عربية. ومقابلاتها الأمازيغية: بُو إِلْمَوْنْ، أو بُلْمَاوْنْ، أو بُو إسْلِيخْنْ، أو تَكَسْدُوفْتْ، تتشكل، باستثناء هذه الأخيرة، من نفس السابقة 'بو' متبوعة بكلمة تعني 'جلد'. وفعلا 'بو جلود' يكتسي بِجُلُودِ خروف أو ماعز مستمدة من أضحيات اليوم الأول من العيد. هذه الجلود ملتصقة مباشرة على جسده العاري.."[23].

ولا يقتصر التعدد على تسمية هذه الفرجة فحسب، بل إننا نجدها تتميز بالتنوع على مستوى بنيتها الفرجوية أيضا، وهو ما سنلمسه من خلال تقديم عرض دقيق للطقوس التي تمر فيها هذه الفرجة في بعض المناطق المغربية، قبل أن نحاول تحليلها بتفصيل، وهكذا سنركز على منطقتي (الريف، واجبالة).

بُو الْجْلُودْ

III.    وصف فرجة "با جلود / با شيخ / بلماون" في مناطق الريف واجبالة بالمغرب  

1-    وصف فرجة "با شيخ" في منطقة الريف[24] - قبيلة تمسمان أنموذجا -

يجب أن نشير في البداية إلى أننا سنعتمد في وصفنا لهذه الفرجة بمنطقة الريف على ما أورده 'أوجست مولييراس' في كتابه: 'المغرب المجهول: اكتشاف الريف'، وإن كنا نقر بأنه يعد أحد أبرز أعلام الأنثروبولوجيا الاستعمارية، لكن ما شجعنا على قبول وصفه هذا وإيراده هنا، هو أولا عدم تمكننا من الحصول على مصادر أخرى تتحدث عن هذا الاحتفال الشعبي؛ فكل ما وجدناه يستقي وصفه مما أورده 'مولييراس'، الأمر الذي دفعنا إلى البحث عن الرواية الأصلية كما أوردها صاحبها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية شجعتنا تلك الشهادة التي قدمها الأستاذ 'عبد الله حمودي' والتي ذهب فيها إلى أنه "ورغم أن مؤلف 'مولييراس' يثير الشبهات لأن المعلومات يزوده بها 'درويش' سائح، بعيدا عن البلد المعني وفي وهران، بعد 24 سنة من الغياب!، فليس من سبب رئيسي للشك في وصفه في تلك المنطقة التي استمعنا فيها لأوصاف (1973) شبيهة جدا بتلك التي يقدمها مولييراس"[25].

يؤكد 'أوجست مولييراس' على أن كرنفال 'با شيخ' يقام في هذه المنطقة ثلاث مرات سنويا؛ في بداية السنة الهجرية الجديدة، وفي عيد الفطر، ثم في عيد الأضحى، ويحييه خمسة أفراد يؤدي كل واحد منه دورا محددا بدقة، وهكذا نجد:

القاضي: أول الداخلين إلى ساحة العرض (الركح)، إذ يتوجه إلى ما يمثل 'مقام' العدالة داخلها؛ ويجلس فوق " ركام زبل السماد هيء خصيصا له " منتظرا مجيء المتقاضين، " ويرتدي هذا القاضي الغريب بذلة من الخيش وتتكون عمامته من شبكة صيد صغيرة الحجم، كما يغطي رأسه بقبعة كبيرة خضراء أو حمراء مستعملة وملفوفة بورق قالب السكر تم التقاطه من المزبلة. وهو لا يضع قناعا غير أن الحناء التي يلطخ بها وجهه تجعله غير معروف، ومكان أذنيه توجد صمامات من بلح البحر ويضع على وجهه لحية وشاربا من الصوف، كما يمسك بيد عصا من الدفلى وباليد الأخرى كومة من جلود الأرانب ستستخدم كسجلات تحفظ بها أحكامه بدقة."

باشيخ: يؤدي دور الزوج "يرتدي أسمالا ويضع حزاما من الحلفة حول خصره وينتعل خفين مثقوبين ويلف ساقيه بجلود الماعز، ويضع فوق رأسه قربة يابسة وعلى أذنيه ورقتين صغيرتين من شجيرة التين الوحشي. أما الوجه فيختفي داخل يقطينة محفورة من الداخل ومثقوبة في أماكن العينين والفم، وعلى جانبي الفم هناك نابان لخنزير حقيقي يخترقان القناع، وفوق اليقطينة وضع جلد القنفذ بأشواكه، وعلق بالحزام خنجر ومسدس من الكليخ ferula communis، وبندقية من الخشب نفسه مثبتة على الكتفين بواسطة حبل صغير من الدوم. ويتدلى من الرأس عرف حصان أو ذيل بقرة، وحول العنق قفة من الدوم مليئة بالحصى ومسبحة تتألف حباتها من البرتقال أو الليمون، بالإضافة إلى تدلي قضيب خشبي وحبتي الباذنجان من بين فخذيه".

الزوجة: "يمثلها شخص قوي البنية، يلف جسده بأكياس قديمة كملابس داخلية، وبكيس قديم وطويل مصنوع من جلد الماعز هو بمثابة فستان (ملحفة)، ويضع على صدره كرتين من الفلين، وأحيانا بعض الخرق البالية، أما خرص الأذنين فهما من حدوتي الفرس، وحول العنق قلادة من قوقع الحلزون المشدودة بحبل الدوم. ويتشكل القناع من يقطينة مجوفة، ومكان الأسنان وضعت حبات من الفول اليابس، وقد حجب الرأس برداء وسخ من الجلد، ووضعت أساور حديدية بالمعصم وقطع من الحديد حول السيقان العارية حتى الركبة، وتكسو قدميها بخفين ممزقين قبل أن تخفيهما داخل بلغة متهالكة، وتحمل معها قنينة مليئة بالقطران."

الحمار: يمثل دوره رجل قوي البنية، حيث "سيظل جاثما على أربع متسليا بركل حارسه اليهودي، وعلى ظهره بردعة مليئة بالثقوب يبرز منها التبن وهي مثبتة بحزام، وقد غطى رأسه بجلد التيس الكبير الذي ينبثق منه عودان من الند يشكلان أذني الحمار، ويمسك بين أسنانه بلجام من الحلفة، وبمؤخرته وضع ذيل بقرة، أما بين الساقين فنجد آلة نفير سوداء تتسع فوهتها تدريجيا وحبتين من الباذنجان تتأرجحان وتصطدمان في عملية اهتزاز دائمة".

اليهودي: "ملطخ بزق العصافير، وعليه بعض الأسمال البشعة المنظر التي لا تستر عورته بالكامل. وتتشكل جلابته من بقايا حصيرة من الحلفة، وتعوض قفة الدوم عباءته، كما تعوَّض خصلات الشعر الطويلة والمتهدلة فوق صدغ الإسرائيليين بزغب الخنزير الطويل أو بعرف مأخوذ من ذيل حيوان منبوذ، وعلى وجهه جلد تيس تم حكه بالرماد مخلوط بفضلات الإنسان والمسقي بحليب رائب وببضع قطرات من العسل لجلب الذباب، مع ترك فتحات للعينين والفم. يرافق سيده ويحمل بين يديه خفين مقززين، وبمعيتهما عصا من الدفلى لإبعاد الكلاب التي يتم إطلاقها في أعقابه. وقد علق بعنقه صندوقا كبيرا مثبتا بزنار يعرض فيه أمام الحشد الساخرين أمتعته التي لا قيمة لها وخردته ومراياه المكسرة وصناديق أعواد الكبريت الفارغة وفضلات البقر بديلا عن المسك وأوراقه الوسخة وكل الأشياء القديمة".

وينطلق الاحتفال الصاخب بدخول 'با شيخ' وزوجته إلى الساحة، حيث يسقطهما الحشد أرضا، وهنا سيتظاهر اليهودي بالحزن والجزع على حال سيديه المتمرغين في التراب، فينهض 'با شيخ' غاضبا متجها صوب 'حماره' رافعا عصاه، لكن عوض أن يضربه ينزل بها على رأس اليهودي الذي سيسقط أرضا من قوة الضربة، لتنطلق قهقهات الجمع المصحوبة بأقذع الشتائم الموجهة إلى اليهودي مقابل التشجيع الحار لـ'با شيخ' و 'الحمار'، في جو حماسي وهستيري.

بعد ذلك "يحدث المشهد الأكثر بشاعة، أو لنقل عقدة المسرحية التي ينتظرها المتفرجون بنفاذ صبر، ذلك أن 'با شيخ' سيشعر فجأة برغبة جنسية جامحة وسينقض على رفيقته. إثر ذلك ستحدث معركة بينهما، وستسقط المسكينة تحت زوجها الذي سينبطح فوقها. آنذاك ستصرخ وستقاوم وستندفع بعنف. أما 'با شيخ' فإنه سينزع عنها الكيس الذي كان بمثابة فستان، وسيصنع منه خيمة صغيرة محاولا استدراج الزوجة إلى داخلها، ولأن جموحه لا يقاوم، فإنه سيندفع نحو كل الجهات ماسكا العصا بيده. وسيصيح الحشد المتحمس: ' ليس هناك.. بل فوق.. لا تحت..'

آنذاك سيتدافع المهرجان بقوة، تارة بالمؤخرتين وتارة بالوجهين، وسيمطران الوجه المتسخ بزق العصافير بالقبلات المدوية. وفي الأخير سترفض المرأة النزول عند رغبة الزوج، مشترطة الحصول على مهرها كاملا وعلى الهدايا وجهاز العروس، وسيصرخ 'با شيخ' متعبا: 'لنحتكم إلى القاضي'، خلال هذا المشهد يحاول اليهودي المستحيل لبيع سلعته رغم الضربات التي يتلقاها من الجمع، وبنهاية المشهد يستدعيه سيده إليه، ليلبي دعوته بهرولته تحت وابل من روث البهائم محاولا جر الحمار، الذي يحاول تسلية الأطفال من خلال ما يقدمه من قفزات، رافضا الانقياد له في البداية، قبل أن تتابع المجموعة بأكملها سيرها في نهاية المطاف صوب مجلس القاضي.

ما إن يمثل 'با شيخ' بين يدي القاضي حتى يتبادلا التحية بكلمات ماجنة وسط هتافات الجمهور، قبل أن يفسر " القاضي بكلام نصفه عربي ونصفه أمازيغي، بأن كل رجل عدالة يحترم نفسه، لا يمكنه أن يصدر حكما إلا إذا ما تلقى قطعا نقدية من فئة 100 فلس. وسيعتبر 'با شيخ' بأن الاقتراح طبيعي جدا، لذلك سيفتح كيسه وسيأخذ كمشة من الحصى وسيلقي بها فوق رأس القاضي صائحا: 'أيها القاضي اجمع فلوسك...'، بعدها سيعرض المشتكيان أمام القاضي سبب خلافها بواسطة إشارات وتعابير بذيئة تثير الضحك، وما أن يعم الصمت حتى يصدر الحكم الآتي "قبل أن ترجع إلى عش الزوجية، على المرأة الفلانية أولا أن تقضي ليلة تحت سقف سعادة القاضي وذلك طبقا لمذهب ابن حصحاص الشهير".

وهنا سينفجر غضب 'با شيخ' الذي سيأخذ زوجته ويحملها معه على ظهر الحمار، طالبا من اليهودي وخز مؤخرة الحيوان لينطلق مسرعا، لكن هذا الأخير سيوجه لليهودي ضربة قوية إلى صدره، وسينقلب على إثرها ملقيا براكبيه فوق القمامة، وفي هذه اللحظة "سيحدث اختلاط غريب وتشابك للسيقان والأذرع التي ترتفع إلى أعلى وتسقط بسرعة فوق الصدور والرؤوس والظهور... وفي لحظة معينة، سينهض الجميع وقد لطخوا بالقطران؛ لأن المرأة أفرغت السائل اللزج أثناء هذا الاختلاط الفظيع، خصوصا على زوجها وعلى القاضي، أما اليهودي الذي كان يتحين فرصة الانفلات، فإنه سيظل مشدودا إلى الحمار الذي يكيل له الركلات المؤلمة. وبين الفينة والأخرى، كان ينتقم من عدوه بضربات عصا يمكن أن تصرع ثورا. وسيستمر الاحتفال المدنس بهذا الشكل، طوال اليوم والأيام الموالية التي توافق الحفل الديني".

لكن الشيء المثير في هذه الفرجة يتمثل أساسا في انتهاك المقدس الديني، من خلال السخرية من الشعائر الإسلامية ممثلة في الصلاة؛ فالانتهاك هو عمق هذا الاحتفال الذي يقوم على التأرجح بين الرغبة والرهبة لدى أفراد الجماعة؛ رغبة في انتهاك المحظور دينيا ودنيويا، فيصبح بهذا الاحتفال آلية هدم وانقلاب وإلغاء، بما أن الاحتفال يعتبر في جوهره "إفراطا مباحا بل ومنظما، وانتهاكا بهيجا للمحظور"[26]، خاصة وأن "الاحتفالات البدائية كانت تتميز كلها بالفوضى العارمة التي يتبعها الهدوء، وبالاستهلاك الباذخ للمنتوجات الزراعية، وبالإفراط في الأكل والشرب وممارسة الجنس"[27].

"فعند حلول الظلام، يقف ' باشيخ ' فوق ركام من الأزبال، مؤديا دور المؤذن حيث يتجه صوب الغرب مناديا: يلعنكم الله، اذهبوا إلى النوم دون صلاة، وكل من يصلي لا فلاح له"، وبعد صراع حول الإمامة بينه وبين القاضي، "سيولي 'باشيخ' وجهه جهة الغرب وسيقيم الصلاة صارخا 'لعن الله المتفرجين، اللهم لا تمنح البركة ولا الجنة لمن يذهب إلى المسجد'. وفي تلك الأثناء، سيتوجه القاضي صوب المرأة التي تتظاهر بالنوم وسيتيمم فوقها، إلا أنها ستثور على ذلك وسينشب عراك بينهما، إثر ذلك، سيدخل باشيخ والحمار واليهودي، ولتبدأ معركة مضحكة من جديد. وفي الأخير ستقام الصلاة جماعة، ظهرا لظهر وبالتدافع، مع تحوير لكلام القرآن بأكثر الطرق سفالة".

إذا كان هذا هو 'باشيخ' الريفي، فكيف سيكون 'باشيخ' في منطقة 'اجبالة'؟

2-     'باجلود' في منطقة اجبالة مشاهدا[28]

يطلق على هذا الاحتفال شمال المغرب اسم ' با جلود ' وهي عادة ترتبط - في هذه المنطقة الجغرافية - بعيد الأضحى المبارك، تبدأ في ثالث أيام العيد، ويمكن أن تستمر إلى غاية آخر يوم من شهر ذي الحجة؛ وذلك بحسب الإقبال الشعبي الذي تلقاه في كل سنة، إذ يمكن أن تستمر من أسبوع إلى عشرين يوما، وترتبط بشكل كبير بالمظاهر الاحتفالية المصاحبة للعيد، وخاصة في جوانبها المرتبطة بعنصر الوليمة أو ما يعرف محليا 'بِالزّْرْدَه' (البوتلاتش POTLATCH)؛ فالممثلون يسعون من وراء الفرجة التي يعرضونها إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من الصدقات العينية، وخاصة من لحم أضاحي العيد.

ويُختار الشخص الذي يؤدي دور 'با جلود' إما من بين 'الرعاة' أو 'الخماسين' أو 'الرباعة' أو حتى من بين 'المنحرفين'، أي من الشرائح الاجتماعية الدنيا في التراتبية القبلية، ولا يمكن، بأي شكل من الأشكال، أن يكون ' با جلود ' من الوجهاء أو من الأشخاص المحترمين داخل القبيلة، ويتم تصميم الكسوة من جلد ماعز الأضحية؛ على اعتبار أن بعض أهل الجبل يفضلون التضحية بالماعز عوض الأكباش، ويبتدئ هذا الاحتفال التنكري مباشرة بعد صلاة العصر، ويستمر إلى ما بعد صلاة العشاء، ويكون 'با جلود' مصحوبا بـ'الغيَّاطة' (العازفون على آلة الغيطة) و'الطبَّالة' (الذين يقرعون على الطبول).

وقبل الخروج إلى الجمهور، يرتدي البطل " الكسوة/الجلود " فوق لحمه مباشرة، إذ لا يجب أن يضع تحتها أي ملابس داخلية، فهي جلود مقدسة تستمد قدسيتها من ارتباطها بالأضاحي المقدمة قربانا لله في هذا اليوم (عيد الأضحى)، ويحمل ' با جلود ' في يده عصا طويلة جدا ليهش بها على المتفرجين، الذين يحاولون الاقتراب منه داخل الحلقة، التي يحتل مركزها.

ويشارك في هذا المظهر الاحتفالي كل سكان الدوار، حيث تحضر النساء من خلال الزغاريد، أما الرجال فيسجلون حضورهم بهتافاتهم الساخرة، في حين يؤثث الأطفال الحفل إما من خلال صرخات الألم (جراء تلقيهم ضربة مباشرة بالعصا) أو بهتافات الفرح (جراء إصابتهم لـ' با جلود ' بحجر صوبوه نحوه فأصابوه به إصابة مباشرة)، وهكذا يعلو صياح الجمع بترديد جملة من العبارات التي تصاحبها أنغام 'الغيطة' الجبلية، والتي يرومون من ورائها استفزاز 'با جلود' حتى ترتفع أكثر أسهم الفرجة والضحك فـ"يحمى الطرح"، ومما يقال في هذه العبارات/الأغاني الشعبية:

العبارات

تعريبها

"أ با جلود القران أ اللحية د لفران"

القران: الذكي، الماكر، "الحرامي"، العدو. أ لحية: اللحية. لفران: الفرن.

"أ با جلود العيان بالوا عليك الجديان"

العيان: التعب والمنهك القوى والقبيح، بالوا: البول، وقد تفيد أن الجديان قد مارست عليه الجنس.

"أ با جلود الجلدة أ اللحية د لقردة"

في هذا سخرية من لباس الشخصية ومن شكلها، وتشبيهها بالقردة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفرجة عانت من التهميش منذ أواخر الثمانينات إلى درجة أنها كادت تنقرض، فتعالت الأصوات الجبلية المنادية بإعادة الحياة من جديد لهذه الفرجة المسرحية المغربية الشعبية، وهو ما عبر عنه 'الحسن العروسي' في أغنية له:

كلمات الأغنية

اللازمة

التعريب

آ وْلـِّيوْ لِيلـُو

آ يوا يوا

عودوا إليه

آ رْجْعُو لِيلـُو

آ يوا يوا

إرجعوا إليه

علاش نْسِيتُوا با جلود

آ يوا يوا

لماذا نسيتم 'باجلود'؟

نسيتوا لـْقـَاعيدة دْ لـْجْدُود

آ يوا يوا

نسيتم عادات الأجداد

آجِيواْ ألـْعْيالْ بْالرْبَاعة

آ يوا يوا

تعالوا يا شباب جميعا

آجِيوا وْرِّيونا لْـْوْلاعَة

آ يوا يوا

تعالوا قدموا أمامنا الفرجة 'فرجة باجلود'


إن هذه الدعوة الصريحة للعودة إلى ممارسة احتفال 'باجلود' من جديد، جعلتنا نتساءل عما إذا كان هذا الحفل الذي شاهدناه، بأم أعيننا، هو نفسه الحفل الذي كان يقام منذ القدم، وفي غياب إجابة مقنعة من لدن أهل المنطقة، اضطررنا للبحث في كتب الأنتروبولوجيا علنا نجد فيها ما يشفي صدورنا، وبالفعل عثرنا على أن هذا الاحتفال في الأصل كان "... لا يختلف جوهريا عن الكرنفال الريفي، غير أنه أكثر تنوعا، والشخصيات أكثر عددا. وهناك أيضا إضافة إلى ذلك شخصية الزنجية، واليهودية والقائد والمخازنية."[29]

فقد كان " يجري الكرنفال مرة في السنة. يدوم ثلاثة أيام ويوافق عيد الأضحى. في اليوم الأول تنتشر الشخوص المقنعة في القرية، حوالي منتصف النهار، ويشرعون في جولتهم للتسول، متوقفين عند كل مسكن، مكررين تهريجاتهم البديئة التي يتلقون بعدها ما تيسر: خبز، لحم، بيض، دجاج، حبوب. ولا داعي لإضافة أن كل القرية تتبعهم، وتحيط بهم، وتبدي إعجابها بهم، وتصيح من الفرح حين تحصل بذاءة أقذع من الأخريات..."[30]

ويشارك في الحفل -حسب الباحث نفسه- عشر ممثلين يختفون وراء أقنعة تمثل شخصيات: با الشيخ، زوجته، الحمار، الخادمة السوداء، اليهودي وزوجته اليهودية، القاضي، والقايد (القائد)، ثم الحراس (المخازنية)، فـ" 'با الشيخ ' عجوز داعر بلحية بيضاء، يلبس ' أسمالا قذرة '، ويحمل ' جلد تيس بمثابة طاقية ' وبيده سبحة من أصداف الحلزون. وأعضاؤه التناسلية بارزة للنظر: ' سير من جلد خروف بصوفه وباذنجانتان بين الساقين، في محاكاة للأعضاء التناسلية '. زوجته يمثلها ' مخنث ' متنكر، وقرعة مفرغة بمثابة قناع أنثوي، وأخريان تمثلان النهدين؛ وأخيرا طنجرة من القطران ' تمثل عطور المرأة الجبلية '. أما الذي يلعب دور الحمار، فيغطي رأسه ' بجمجمة حمار حقيقية، بيضاء، متيبسة، تبرز فكيها وأسنانها الهائلة '. حجران كبيران مخيطان في كيسين وعصا مُسَوَّدة بالقطران تمثل الأعضاء التناسلية. اليهودي يرتدي برنسا قذرا وخسيسا؛ ويحمل الشاشية المميزة وذيلي بقرة يمثلان 'سالفي بني إسرائيل'، عليه باستمرار أن يتلافى الضربات ويبكي وينوح. زوجته تحميه. تستعمل قرعتين بمثابة نهدين، جسدها ووجهها مسبوغان بالجير. القاضي بالمقابل، فخم بعمامته العظيمة المشدودة بنظام معقد من الحبال وبسبحته من أصداف الحلزون. يتأبط لوحا من الفلين يمثل مصحف القرآن الذي يستعمله لإصدار أحكام معاكسة دوما لأبسط مبادئ العقل السليم. القايد ملطخ الوجه و'بشع'. مظهره شرس، يهز سيفه باستمرار ويحمل شاشية حمراء طويلة. وأدوات طبخ كاملة عند قدميه. وأخيرا الحراس ' شاهري السيوف، بنظرة غاضبة، حقودة، متنكرين مثل القايد رئيسهم، يرقبون كلمة، أو نظرة من السيد ليهجموا على الضحية المختارة..."[31].

ويوضح الباحث بأن هذه المسرحية الشعبية تشخص لا مسؤولية كل من القاضي والقايد اللذان يستغلان نفوذهما لتحقيق مصالحهما الخاصة، في الوقت الذي يبقى فيه 'با الشيخ' مهووسا بطاقته الجنسية المنهوكة؛ التي تدفعه إلى الرغبة في ممارسة الجنس مع زوجته في كل لحظة أملا في إثبات فحولته الضائعة، أما اليهودي فيقدم في صورة عاجز جنسي (أرعن) غير قادر على تلبية شهوات زوجته اليهودية القوية؛ فيتوسل إليها محترما كل خصائص اللغة اليهودية المغربية، لكنها ترفض وتجره أمام القاضي الذي يلزمه بمضاجعتها عشر مرات كل ليلة لكنه يعجز عن تنفيذ هذا الحكم.

بُو الْجْلُودْ

IV.        قراءة في مسرحية 'باشيخ' الشعبية في منطقتي 'الريف واجبالة'

1-   بنية المسرحية الشعبية

إن الملاحظة المتأنية لهذا الحفل المسرحي الشعبي في كل من منطقة الريف وبلاد 'اجبالة ' ستجعلنا نقف على أن:

هناك قواسم كثيرة مشتركة بينهما، فكلاهما يعتمد على:
  • التنكر من خلال الاستعانة بالأقنعة.
  • الاستعانة بالإكسسوارات المناسبة.
  • الاعتماد على معجم الفحش والمجون وعلى اللغة الصادمة.
  • تقديم صورة مخيفة لـ'با شيخ'. (وحش له أنياب وأشواك، يضرب كل من يقترب منه، مخيف...)
  • تقديم صورة جد سلبية لليهودي. (بئيس، مخادع، عاجز جنسيا، يضرب بعنف، متظاهر، يتحين الفرصة من أجل الانتقام من المسلمين...)
  • تقديم صورة سلبية لممثلي السلطة القضائية. (القاضي يحكم بأحكام غريبة).
  • انتهاك المقدس الديني. (تحريف القرآن الكريم وتغيير قواعد الصلاة والدعوة لتركها، مسبحة مشوهة، التيمم فوق تضاريس جسد المرأة...).
  • انتهاك المحظور الاجتماعي. (الإيحاء بممارسة الجنس علنا، واللجوء إلى الإشارات البذيئة...).
  • التأكيد على القوة الجنسية لدى 'السود'. (لون الأعضاء التناسلية فقد اختير لها دائما اللون الأسود: باذنجان أسود).
كما إن هناك نقط اختلاف جزئية، تتمثل في:
  • زمن الحفل ومدته. (بمنطقة 'اجبالة' ينظم مرة واحدة في السنة 'عيد الأضحى'، وفي الريف ثلاث مرات سنويا 'في بداية السنة الهجرية الجديدة، وفي عيد الفطر، ثم في عيد الأضحى').
  • عدد الشخوص. (خمسة في الريف وعشرة عند 'اجبالة').
  • الممثلون في ' اجبالة ' ينتمون إلى الطبقات الفقيرة، في حين تغيب الإشارة إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها هؤلاء في الريف.
  • اليهودي متزوج عند اجبالة لكنه عاجز جنسيا، بينما لا توجد إشارة إلى زواجه في الريف.
  • المرأة في الريف يؤدي دورها رجل قوي البنية، وعند 'اجبالة' رجل "مخنث".
  • في الريف هناك ضرب حقيقي، بينما عند ' اجبالة ' هناك تظاهر بالضرب فقط.
  • تأكيد الريفيين على فساد السلطة القضائية فقط، في حين يضيف إليها 'اجبالة’ فساد السلطة التنفيذية أيضا ممثلة في القائد والمخازنية.
  • القطران في الريف يجسد إفرازات زوجة 'با الشيخ'، بينما عند 'اجبالة' هو عطر هذه الزوجة.

2-   تحليل المسرحية الشعبية

القوى الفاعلة

"با شيخ"، الزوجة، الحمار، اليهودي، القاضي، الجلود، العصا، القطران، بالنسبة لمنطقة 'اجبالة' هناك قوى فاعلة إضافية وهي: زوجة اليهودي، الخادمة السوداء، القايد، المخازنية.

لقد آثرنا ألا نحدد السمات المميزة لكل شخصية من هذه الشخصيات تفاديا منا للتكرار؛ على اعتبار أن سماتها سبق وعرضناها في الوصف الذي قدمناه لمراحل الاحتفال الشعبي.

البنية العاملية

بما أن الشخصيات تعتبر أهم القوى الفاعلة، وتساهم بشكل كبير في تجسيد الموقف المسرحي ونموه، لا بد من الوقوف على البنية العاملية في هذا العرض المسرحي الشعبي المميز، وهكذا فإننا نجد ذاتين راغبتين في موضوع واحد، الأمر الذي يعني أننا أمام بنية عاملية متطورة، أي إننا أمام بنيتين عامليتين:

الأولى على الشكل الآتي:

البنية العاملية


فيما يمكن تجسيد الثانية كما يلي:

البنية العاملية 

ملاحظة:

نُذَكِّر بأن العلاقة القائمة بين الذات والموضوع هي الرغبة، أما العلاقة بين المرسل والمرسل إليه فهي التواصل والإرسال، بينما العلاقة بين المساعد والمعاكس فهي الصراع.

الصراع الدرامي

يظهر لنا منذ الوهلة الأولى تباين الرغبات بين الذاتين ( القاضي و' با الشيخ ' )، الأمر الذي سينجم عنه صراع حول الزوجة، وهو الصراع الذي عجلت به عقدة المسرحية والمتجسدة في رفض الزوجة الانصياع لرغبة الزوج، قبل أن تتفسخ البنية في الأخير بالإشارة إلى تحقيق رغبة الذاتين معا.

الأنساق والقيم الفكرية

تعتبر هذه الشخوص ذات أبعاد رمزية مهمة، تحاول أن تعكس موقفها من الواقع المعيش، فهي تبدو مخلصة لقناعاتها، فالبطل يرمز للرجل الشمال إفريقي الذي يختزل رجولته في فحولته فقط، في حين تبدو المرأة مجرد كائن جنسي مفعول بها بالأساس فهي لا تملك إرادتها بيدها، أما القاضي فيرمز للاستغلال والابتزاز الذي يطبع هذه الفئة، في حين يمثل اليهودي قيم الخديعة والمكر. وهكذا يمكن أن نصنف قيم هذه المسرحية الشعبية إلى ثيمتين أساسيتين هما: فساد المجتمع، وفساد السلطة.

تعالق الزمان والمكان

زمن هذه الفرجة ممتد وغير محدد بدقة؛ فهو يتكرر كل سنة بين مرة وثلاث مرات، بحسب المنطقة، ومدة الحفل أيضا تختلف من منطقة لأخرى، أما المكان فيسجل تأرجحه بين فضاءات مفتوحة وهي الغالبة ( أحياء القرية والساحة الكبرى بداخلها )، وبين فضاءات مغلقة (عندما يلج الممثلون دارا معينة طلبا للصدقة ).

الخطاطة السردية

  • البداية: دخول الممثلين إلى فضاء العرض.
  • العنصر المخل: مناوشة واستفزاز ' با الشيخ ' من طرف الجمهور.
  • العقدة: رغبة البطل في ممارسة الجنس، ورفض الزوجة، ثم جرها إلى بيت العدالة.
  • النهاية: انتهاك المقدس الاجتماعي والديني من خلال الإيحاء بالممارسة الجنسية الجماعية، وتحريف القرآن وتغيير طريقة الصلاة، و...    

خلاصة

نسجل في هذه الفرجة قيامها الكلي على عنصر التنكر الاحتقاري؛ تنكر سلبي ينزل بالإنسان من مرتبة التكريم الذي خصه به الله عز وجل إلى مرتبة الحيوان بل أضل سبيلا، ولعل هذا ما يسمح بكل ذلك الانتهاك الذي تتعرض له كل المقدسات في هذه الفرجة، بما أن الفاعل الأساس غير عاقل، فتتميز لغة المسرحية/المسخرة بالمجون والفحش، وتعتمد بالأساس على اللغة العامية، كما تتميز باعتمادها المطلق على السخرية والاستهزاء والالتماس، مع حضور بارز لشخصية ' اليهودي ' المنبوذ والذي يتعرض للعنف طيلة أطوار هذه الفرجة لانتهازيته ومكره.

هكذا إذن تحاول فرجة ' با الشيخ ' تسليط الضوء على بعض العيوب الاجتماعية من خلال التركيز على تسويق مجموعة من القيم والأنساق الفكرية السلبية بشكل فج وصادم، وهو الأمر الذي يدفع إلى تحقيق نوع من التطهير ( الكاتارسيس CATHARSIS)، باعتماد عنصر الصراع الدرامي، مع تركيزها على انتهاك المقدس الاجتماعي والديني بشكل مبالغ فيه، في إشارة يمكن أن نفهم منها نوعا من الحكم على كون كل هذه العيوب، التي تنتشر وتطبع المجتمع والسلطة معا، لا تمت للإسلام بصلة، ومن ثم وجب إعادة النظر فيها ومعالجتها، وإن كانت بعض الدراسات ترجع هذا الانتهاك إلى " وجود يد يهودية خفية هي التي تدنسه وتحمِّله كل هذا الفحش اللاأخلاقي."[32]

ولعل عنف الانتهاك الذي يتعرض له المقدس الديني خلال هذه الفرجة، سار بها نحو الانقراض شيئا فشيئا، حيث أصبحت هذه الفرجة منبوذة ومكروهة من طرف أغلب الفئات الاجتماعية المغربية فصدر القرار بـ" أن يكفوا عن لعب بيلماون"[33]، لكن ولحسن الحظ، بقيت بعض المناطق محافظة على هذا الحفل ولكن بشكل مغاير، تماما، لما كان عليه الأمر في الماضي، وهو ما تؤكده هذه الصور الفوتوغرافية، الحديثة، التي حصلنا عليها لاحتفالات ' با جلود ' في منطقة اجبالة.

الكاتب:
طارق العلوي الحسني
طارق العلوي الحسني
(المغرب)
.........................................................

[1] - محمد المديوني، إشكالية تأصيل المسرح العربي، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة 1993، ص: 21-22
[2] - سبق وبينا هذا في مقالنا الموسوم بـ " الفرجة الشعبية العربية بين المسرح واللامسرح " المنشور بمجلة الرافد، العدد 248 أبريل 2018.
[3] - تمارا ألكساندروفنا بوتيتسيفا، ألف عام وعام على المسرح العربي، ترجمة توفيق المؤذن، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 1981، ص:40
[4] - علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، عالم المعرفة عدد 248، الطبعة الثانية، غشت 1999، ص: 33
[5] - محمد عزيزة، الإسلام والمسرح، ترجمة رفيق الصبان، منشورات عيون المقالات، مطبعة دار قرطبة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 1983، ص: 61
[6] - محمد الكغاط، أساطير معاصرة وبشارة الخير، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، الطبعة الأولى 1993، ص: 56
[7] - محمد الوادي، صورة اليهودي في المسرح المغربي، الطبعة الأولى 2006، منشورات إيديوسوفت، ص: 24
[8] - آفاق مجلة اتحاد كتاب المغرب، المدير المسؤول محمد الأشعري، العدد 3 خريف 1989، ص: 114
[9] - محمد أديب السلاوي، المسرح المغربي: البداية والامتداد، دار وليلي للطباعة والنشر مراكش، الطبعة الأولى 1996، ص: 7
[10] - حمادي بن حليمة، نقلا عن: عبد الواحد عوزري، المسرح في المغرب: اتجاهات وبنيات، ترجمة عبد الكريم الأمراني، الطبعة الأولى 1998، دار توبقال للنشر، ص: 13
[11] - فؤاد ازروال، التلقي في الفرجة الشعبية بالمغرب: دراسة في الأنماط والأسس، رسالة لنيل الدكتوراه، جامعة محمد الأول بوجدة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، السنة الجامعية: 2004-2005، (غير منشورة)، ص: 28
[12] - محمد أديب السلاوي، المسرح المغربي: البداية والامتداد، مرجع سابق، ص: 7
[13] - بارتيس باخيس: معجم المسرح ص: 338، نقلا عن: حسن بحراوي، المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية، الطبعة الأولى 1994، المركز الثقافي العربي، ص: 7
[14] - حسن المنيعي، البدايات والتأسيس في المسرح المغربي الحديث، مجلة آفاق، مرجع سابق، ص: 11
[15] - عبد الله ستوكي، إلى أين يسير المسرح المغربي؟، ترجمة إبراهيم السولامي، مجلة اللواء المغربية، ع 1، س 1، 1979، ص: 47
[16] - أبو بكر المريني، المسرح مدرسة الشعب ومرآته، مجلة الفنون، عدد خاص بالنصوص المسرحية المغربية، تصدرها وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الثقافية، السنة الثالثة العددان 3 – 4، شوال – ذي الحجة 1396 هـ، أكتوبر – دجنبر 1976، ص: 2
[17] - الحسن السايح، نقلا عن: مصطفى بغداد، المسرح المغربي قبل الاستقلال، الطبعة الأولى ماي 2000، منشورات الرهان الآخر – الدار البيضاء، ص: 7
[18] - عباس الجراري، الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، الجزء1، الطبعة الثالثة، مطبعة المعارف الجديدة 1406/1986، ص: 263
[19] - نفسه، ص: 264
[20] - محمد عزيزة، الإسلام والمسرح،مرجع سابق، ص: 54
[21] - نفسه.
[22] - حسن بحراوي، المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية، مرجع سابق، ص: 72
[23] - لاوست، نقلا عن: عبد الله حمودي. الضحية وأقنعتها: بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب، ترجمةعبد الكبير الشرقاوي، الطبعة الأولى 2010، دار توبقال للنشر، ص:33
[24] - أوجست مولييراس، المغرب المجهول: اكتشاف الريف (الجزء الأول)، ترجمة عز الدين الخطابي، الطبعة: 2007، منشورات تفراز رقم 2، مطبعة دار النجاح الجديدة، ص: من 113 إلى 117
[25] - عبد الله حمودي، الضحية وأقنعتها: بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب مرجع سابق، الإحالة 4، ص: 28.
[26] - Freud, S: Totem et tabou. 2004 Paris, Payot, S.d, P :161
[27] - R. Callois : L’homme et le Editions: Gallimard,1950
[28] - كما شاهدناه، وكما أخبرنا بذلك بعض سكان دوار أولاد الغازي بقبيلة مصمودة إقليم وزان جهة طنجة – تطوان، خلال هذه السنة ( ذو الحجة 1432 هـ/ دجنبر 2010).
[29] - مولييراس، نقلا عن: إدمون دوطي، السحر والدين في إفريقيا الشمالية، ترجمة فريد الزاهي، مطبعة بورقراق، بدون طبعة، ص: 351
[30] - عبد الله حمودي، مرجع سابق، ص: 28
[31] - نفسه، ص: 28-2
[32] - محمد الوادي، صورة اليهودي في المسرح المغربي، مرجع سابق، ص: 14
[33] - عبد الله حمودي، مرجع سابق، ص: 89
تعليقات