توطئة
تعتبر ثقافة المغرب واحدة من أغنى الثقافات العالمية، وذك راجع أولا إلى موقعه الجغرافي المتميز؛ الذي مكنه من الانفتاح على مختلف الحضارات البشرية، سواء تلك القادمة من الشرق أو من الغرب، كما يرجع، هذا الغنى الثقافي، ثانيا إلى تنوع بنيته الديموغرافية (أمازيغ، عرب، ويهود)، حيث طبعت كل مجموعة إثنية و/أو دينية الثقافة المغربية ببعض بصماتها (الفنية، الفكرية، والطقوسية و...)، وهو الأمر الذي برز بشكل كبير في مجال الفرجات الشعبية التي تلتقي كلها في عناصر التمسرح.
ورغم أننا لم نكن نتوقع الدخول في ذلك النقاش العقيم الذي تناول مسألة تاريخ تعرف المغاربة خاصة، والعرب عامة، على فن المسرح من عدمه (أي التطرق إلى مسألة تأصيل المسرح المغربي والعربي)، على اعتبار كوننا نجده نقاشا أسال المداد الكثير، وساهم في إهدار جهود الفكر العربي لعقود طويلة، إلا أننا وجدنا أنفسنا، من دون أن نشعر بذلك، ننبش في ذاكرة الموروث الثقافي المغربي بحثا عن مدى حقيقة تجذر الفرجة الممسرحة أو التمثيلية في الثقافة المغربية.
I. فرجة المسرح الشعبي المغربي: - بين الحضور والغياب –
فالممارسة المسرحية موجودة " في كل مكان، ومن قديم الزمان، وكما أن جميع الأطفال يتميزون بحبهم للتقليد والتشخيص، فكذلك الأمر بالنسبة للشعوب في مرحلة طفولتها. إن أي نوع من أنواع التحول يعتبر بمثابة التشخيص، وقد ظهر الأخير في المواكب الاحتفالية الممسرحة في كل مكان. في الطقوس والعادات الغنية بالعناصر المسرحية وفي اللوحات الدينية. ومع مرور الزمن أفعمت هذه الطقوس الفلكلور الذي تزخر به كل الشعوب، وبهذا أصبح لها طابع دنيوي، ثم تحولت بالتدريج إلى عروض مسرحية."[3]
إن ما أثارنا في مختلف هذه المواقف التي تنفي وجود مسرح لدى أسلافنا، هو وقوفنا – وبكل أسف – عند سعي أصحابها الحثيث وراء إثبات أنموذجية المسرح الغربي، عنوة، متناسين أنهم بفعلهم هذا يساهمون في ترسيخ الأفكار العنصرية التي تتحدث عن دونية العقل العربي وعجزه عن خلق أساليب فنية خاصة به يعبر من خلالها عن نفسه كما فعل ذلك غيره، ولعل هذا ما نفهمه من قول 'حمادي بن حليمة': " إن نظرة سريعة على الإنتاج الأدبي العربي إلى حدود القرن التاسع عشر تظهر لنا أن الشاعر أو الناثر يفتقر إلى النفس وإلى الخيال. ولذلك فإنه سيكون من العبث أن نبحث في مجتمع يتميز بمحدودية الأفق الفكري، عن فكر مهندس معماري، وهو الفكر الضروري لأي إبداع مسرحي."[10]
إننا نرفض كل ربط أو مقارنة للفرجة الشعبية المغربية المشخصة أو الممسرحة بالمسرح الأوروبي؛ فلا يجب أن ننجر – بأي حال من الأحوال – إلى المقارنة بينهما؛ لأن في ذلك إجحافا نلحقه بأحد أهم مكونات ثقافتنا الشعبية، الأمر الذي سيساهم في تعرضها إلى المزيد من التهميش.
وإذا كان 'حسن المنيعي' يرى أن المسرح في الأصل عبارة عن " حفل ديني تقيمه مجموعة إنسانية لتحتفي بشعيرة زراعية (الإخصاب مثلا) تقوم على مشاهد نرى فيها إلها يحتضر ليحقق حياة أفضل، أو سجينا يواجه الموت، أو استعراضا دينيا، أو حفلا تهتكيا Orgiaque أو كرنفالا منظما..."[13]، وبما أننا نجد أشكالا فرجوية مغربية خالصة تقوم على أصول مسرحية من خلال "اهتمامها بالمقدس أو لاندراجها في الممارسة اللعبية، ...، تقوم بالأساس على فنون الحكي والرقص والموسيقى والغناء والإنشاد، كما أنها تعنى بالحركة والارتجال في القول"[14]، فإننا نرى – من خلال كل ما تقدم – أن نسمي هذه الفرجات: 'فرجة المسرح الشعبي المغربي'، وهنا نحن نتفق مع ما ذهب إليه 'عبد الله ستوكي' من أننا "نجد أنفسنا أمام مسرح مغربي أصيل يستحق الاعتراف وحتَّام نعاند أبدا، فلا نسمي مسرحا إلا ما كان ذا قالب غربي؟"[15]
II. جذور فرجة المسرح الشعبي المغربي
لقد كان الإنسان منذ القدم ممثلا بطبعه؛ لهذا أنتج فرجات تمثيلية/مسرحية باستمرار، وذلك إما محاولة منه للتواصل مع غيره من أفراد جماعته، أو للتعبير عما كان يطبع حياته اليومية من أحداث مهمة فالمسرح كان ولا يزال هو مدرسة الشعب ومرآته في آن واحد، فهو مدرسة لأن منه ينطلق الوعي، وعلى خشبته تمارس التربية الحقة، دينية، وأخلاقية، واجتماعية، وثقافية، وسياسية، وبواسطته يدرك الشعب حقيقة نفسه وأوضاعه، ومنه يطل على حاضره وماضيه، ويتطلع إلى مستقبله، وهو مرآة لأن عليه تنعكس درجة الوعي التي وصل إليها الشعب، والمرتبة الحضارية التي تبوأها، فكما يكون يرى نفسه على مسرحه، لأن المسرح ابن بيئته.[16]
وتؤكد المصادر التاريخية، بما لا يدع أي مجال للشك، إبداع الإنسان المغربي، هو الآخر، لفرجات شعبية ممسرحة منذ القدم، إذ " تحتوي جل المدن المغربية الرومانية على (كابيتول) وعلى (مسرح)، وبدون شك فإن هذا المسرح كانت تمثل فيه روايات تكتب تارة باللغة الرومانية، وتارة أخرى بالإغريقية باللغة القومية واللهجة العامية، وهذه الروايات التي تتردد بين الجودة والضعف، كانت مرة هزلية تشوق الطبقة الشعبية بما تشتمل عليه من هزليات ومواعظ وألوان من الفلكلور المحلي، غير أن الزمان لم يحتفظ لنا بشيء من ذلك، وإن كنا نعرف أن هناك بقايا حكايات ونوادر وأقاصيص على ألسنة الحيوانات أوردها الكاتب البربري (أبوليوس) وكانت تمجد الفروسية والبطولة "[17].
فالفرجة المسرحية، على هذا، انتشرت في كل ربوع المغرب، بفعل ما فرضته ضرورات الحياة من تنقل للسكان من منطقة لأخرى، فلم تبق بذلك حبيسة المدن الرومانية فحسب، ولعل هذا ما نفهمه من الأستاذ 'عباس الجراري' عندما أكد على " أن المغاربة تأثروا بالقرطاجنيين ثم الرومان بعدهم، ومارسوا فن التمثيل القائم على الأناشيد والحركات الراقصة، التي تؤدى بها الطقوس والشعائر الدينية والتي ترمز إلى التوسل بالآلهة "[18].
هذا وتجدر الإشارة إلى أن بعض الممارسات "المسرحية" التي شكلت عماد الفرجة الشعبية بالمغرب، خلال هذه الفترة، قد ضاعت وتلاشت كليا؛ خاصة وأن المغاربة تخلوا بشكل كلي عن هذه التقاليد المسرحية خلال الفترة الأولى من الفتح الإسلامي للبلاد، وذلك " راجع إلى أن هذا الدين جاء بثقافة جديدة، وأنهم لم يجدوا في نطاق ثقافته حاجة إلى التعبير بالمسرح على الشكل الإغريقي الروماني الذي عرفوه. إذ لا يخفى أن هذا المسرح كان يُتوسل به في أداء الطقوس والشعائر الدينية، فضلا عن أنه كان مرتبطا بالصراع، ولاسيما في مواجهة القضاء والقدر، والدين الإسلامي يحد من هذا الصراع ويحث على الطمأنينة النفسية بالدعوة إلى الإيمان بالقدر خيره وشره."[19]
لكن، في اعتقادنا، هذا الرأي يجانب الصواب؛ فعلى الرغم من أن الإسلام يمنح القدرة المطلقة على الفعل وإرادة الفعل للإله وحده سبحانه وتعالى، إلا أنه لا ينفي عنصر الإرادة عن العباد، بل، أكثر من هذا، إنه لا ينفي عنهم حتى عنصر القدرة على الفعل في أمور معينة، وإلا فلن يكون هناك أي معنى لكل من الثواب والعقاب في غياب تمتع العباد بهذين العنصرين. وعليه فإن الدين الإسلامي لم يمنع المجتمعات، ومن بينها المجتمع المغربي، " من معرفة أشكال مختلفة من المسرح، ...، والتي ستبرهن على تطور المسرح بشكل لا يخص المسرح الإسلامي فحسب."[20] إذ وعلى الرغم من تلاشي تقاليد الفرجة التمثيلية/المسرحية بالمغرب بعد وصول الفتح الإسلامي للبلاد، " فقد بقيت لتلك التقاليد آثارا غير قليلة تتجلى في الرقص الشعبي، سواء منه الرقص البربري والبدوي أو رقص الطوائف الصوفية"[21]. وسنعمل في هذا المقال على تسليط الضوء على نوع فرجوي شعبي مغربي تأرجح في الثقافة المغربية بين المقدس والمدنس، وحمل تسميات مختلفة في عدة مناطق مغربية، إنه فرجة " بِلْمَاوْنْ / بَا جْلُودْ / بَا شِّيخْ ". فكيف تتم هذه الفرجة؟ ومن هم شخوصها؟ وما الرسائل التي تعمل على إيصالها؟
قبل الدخول إلى عالم هذه الفرجة والشروع في وصفها وتحليلها، لابد لنا من أن نشير، في البداية، إلى أن هذه الفرجة الشعبية المسرحية المغربية، قد أخذت تسميات عدة – بخلاف غيرها من الفرجات المغربية –، ويرجع ذلك إلى انتشارها في مناطق جغرافية مختلفة بالبلاد مع ما واكب هذا الاختلاف من تنوع في البنيات الإثنيةّ؛ وهكذا كانت " تارة بُو جْلُودْ (إشارة للشخص الذي يلبس الجلود) كما في مراكش وأحوازه، وتارة هَرْماً (إحالة على الشيخ الهرم) أو هَرْماً كَركَاع أو هَرْماً بُو الْجْلُودْ مثلما يطلقون عليه في منطقة حاحا ودكالة، وفي الشياظمة يسمونه الشّْوِيَخْ (تصغير لكلمة الشيخ) ويقابله بالأمازيغية بِيلْمَاوْنْ وفي الشاوية هَرْما بُو الْبْطَايْنْ... إلخ، إلا أن الاسم الغالب في التداول هو: بُو الْجْلُودْ، بشهادة معظم الإثنوغرافيين الذين تعرضوا للموضوع (دوتي 1905 و1909 – لاووست 1921 – فاسترماك 1935)."[22]
ويذهب 'لاوست' إلى أن " كلمة ' بُو جْلُودْ ' عربية. ومقابلاتها الأمازيغية: بُو إِلْمَوْنْ، أو بُلْمَاوْنْ، أو بُو إسْلِيخْنْ، أو تَكَسْدُوفْتْ، تتشكل، باستثناء هذه الأخيرة، من نفس السابقة 'بو' متبوعة بكلمة تعني 'جلد'. وفعلا 'بو جلود' يكتسي بِجُلُودِ خروف أو ماعز مستمدة من أضحيات اليوم الأول من العيد. هذه الجلود ملتصقة مباشرة على جسده العاري.."[23].
ولا يقتصر التعدد على تسمية هذه الفرجة فحسب، بل إننا نجدها تتميز بالتنوع على مستوى بنيتها الفرجوية أيضا، وهو ما سنلمسه من خلال تقديم عرض دقيق للطقوس التي تمر فيها هذه الفرجة في بعض المناطق المغربية، قبل أن نحاول تحليلها بتفصيل، وهكذا سنركز على منطقتي (الريف، واجبالة).
III. وصف فرجة "با جلود / با شيخ / بلماون"
في مناطق الريف واجبالة بالمغرب
1- وصف فرجة "با شيخ" في منطقة الريف[24] - قبيلة تمسمان أنموذجا -
يجب أن نشير في البداية إلى أننا سنعتمد في وصفنا لهذه الفرجة بمنطقة الريف على ما أورده 'أوجست مولييراس' في كتابه: 'المغرب المجهول: اكتشاف الريف'، وإن كنا نقر بأنه يعد أحد أبرز أعلام الأنثروبولوجيا الاستعمارية، لكن ما شجعنا على قبول وصفه هذا وإيراده هنا، هو أولا عدم تمكننا من الحصول على مصادر أخرى تتحدث عن هذا الاحتفال الشعبي؛ فكل ما وجدناه يستقي وصفه مما أورده 'مولييراس'، الأمر الذي دفعنا إلى البحث عن الرواية الأصلية كما أوردها صاحبها، هذا من جهة، ومن جهة ثانية شجعتنا تلك الشهادة التي قدمها الأستاذ 'عبد الله حمودي' والتي ذهب فيها إلى أنه "ورغم أن مؤلف 'مولييراس' يثير الشبهات لأن المعلومات يزوده بها 'درويش' سائح، بعيدا عن البلد المعني وفي وهران، بعد 24 سنة من الغياب!، فليس من سبب رئيسي للشك في وصفه في تلك المنطقة التي استمعنا فيها لأوصاف (1973) شبيهة جدا بتلك التي يقدمها مولييراس"[25].
القاضي: أول الداخلين إلى ساحة العرض (الركح)، إذ يتوجه إلى ما يمثل 'مقام' العدالة داخلها؛ ويجلس فوق " ركام زبل السماد هيء خصيصا له " منتظرا مجيء المتقاضين، " ويرتدي هذا القاضي الغريب بذلة من الخيش وتتكون عمامته من شبكة صيد صغيرة الحجم، كما يغطي رأسه بقبعة كبيرة خضراء أو حمراء مستعملة وملفوفة بورق قالب السكر تم التقاطه من المزبلة. وهو لا يضع قناعا غير أن الحناء التي يلطخ بها وجهه تجعله غير معروف، ومكان أذنيه توجد صمامات من بلح البحر ويضع على وجهه لحية وشاربا من الصوف، كما يمسك بيد عصا من الدفلى وباليد الأخرى كومة من جلود الأرانب ستستخدم كسجلات تحفظ بها أحكامه بدقة."
الزوجة: "يمثلها شخص قوي البنية، يلف جسده بأكياس قديمة كملابس داخلية، وبكيس قديم وطويل مصنوع من جلد الماعز هو بمثابة فستان (ملحفة)، ويضع على صدره كرتين من الفلين، وأحيانا بعض الخرق البالية، أما خرص الأذنين فهما من حدوتي الفرس، وحول العنق قلادة من قوقع الحلزون المشدودة بحبل الدوم. ويتشكل القناع من يقطينة مجوفة، ومكان الأسنان وضعت حبات من الفول اليابس، وقد حجب الرأس برداء وسخ من الجلد، ووضعت أساور حديدية بالمعصم وقطع من الحديد حول السيقان العارية حتى الركبة، وتكسو قدميها بخفين ممزقين قبل أن تخفيهما داخل بلغة متهالكة، وتحمل معها قنينة مليئة بالقطران."
اليهودي: "ملطخ بزق العصافير، وعليه بعض الأسمال البشعة المنظر التي لا تستر عورته بالكامل. وتتشكل جلابته من بقايا حصيرة من الحلفة، وتعوض قفة الدوم عباءته، كما تعوَّض خصلات الشعر الطويلة والمتهدلة فوق صدغ الإسرائيليين بزغب الخنزير الطويل أو بعرف مأخوذ من ذيل حيوان منبوذ، وعلى وجهه جلد تيس تم حكه بالرماد مخلوط بفضلات الإنسان والمسقي بحليب رائب وببضع قطرات من العسل لجلب الذباب، مع ترك فتحات للعينين والفم. يرافق سيده ويحمل بين يديه خفين مقززين، وبمعيتهما عصا من الدفلى لإبعاد الكلاب التي يتم إطلاقها في أعقابه. وقد علق بعنقه صندوقا كبيرا مثبتا بزنار يعرض فيه أمام الحشد الساخرين أمتعته التي لا قيمة لها وخردته ومراياه المكسرة وصناديق أعواد الكبريت الفارغة وفضلات البقر بديلا عن المسك وأوراقه الوسخة وكل الأشياء القديمة".
بعد ذلك "يحدث المشهد الأكثر بشاعة، أو لنقل عقدة المسرحية التي ينتظرها المتفرجون بنفاذ صبر، ذلك أن 'با شيخ' سيشعر فجأة برغبة جنسية جامحة وسينقض على رفيقته. إثر ذلك ستحدث معركة بينهما، وستسقط المسكينة تحت زوجها الذي سينبطح فوقها. آنذاك ستصرخ وستقاوم وستندفع بعنف. أما 'با شيخ' فإنه سينزع عنها الكيس الذي كان بمثابة فستان، وسيصنع منه خيمة صغيرة محاولا استدراج الزوجة إلى داخلها، ولأن جموحه لا يقاوم، فإنه سيندفع نحو كل الجهات ماسكا العصا بيده. وسيصيح الحشد المتحمس: ' ليس هناك.. بل فوق.. لا تحت..'
ما إن يمثل 'با شيخ' بين يدي القاضي حتى يتبادلا التحية بكلمات ماجنة وسط هتافات الجمهور، قبل أن يفسر " القاضي بكلام نصفه عربي ونصفه أمازيغي، بأن كل رجل عدالة يحترم نفسه، لا يمكنه أن يصدر حكما إلا إذا ما تلقى قطعا نقدية من فئة 100 فلس. وسيعتبر 'با شيخ' بأن الاقتراح طبيعي جدا، لذلك سيفتح كيسه وسيأخذ كمشة من الحصى وسيلقي بها فوق رأس القاضي صائحا: 'أيها القاضي اجمع فلوسك...'، بعدها سيعرض المشتكيان أمام القاضي سبب خلافها بواسطة إشارات وتعابير بذيئة تثير الضحك، وما أن يعم الصمت حتى يصدر الحكم الآتي "قبل أن ترجع إلى عش الزوجية، على المرأة الفلانية أولا أن تقضي ليلة تحت سقف سعادة القاضي وذلك طبقا لمذهب ابن حصحاص الشهير".
لكن الشيء المثير في هذه الفرجة يتمثل أساسا في انتهاك المقدس الديني، من خلال السخرية من الشعائر الإسلامية ممثلة في الصلاة؛ فالانتهاك هو عمق هذا الاحتفال الذي يقوم على التأرجح بين الرغبة والرهبة لدى أفراد الجماعة؛ رغبة في انتهاك المحظور دينيا ودنيويا، فيصبح بهذا الاحتفال آلية هدم وانقلاب وإلغاء، بما أن الاحتفال يعتبر في جوهره "إفراطا مباحا بل ومنظما، وانتهاكا بهيجا للمحظور"[26]، خاصة وأن "الاحتفالات البدائية كانت تتميز كلها بالفوضى العارمة التي يتبعها الهدوء، وبالاستهلاك الباذخ للمنتوجات الزراعية، وبالإفراط في الأكل والشرب وممارسة الجنس"[27].
إذا كان هذا هو 'باشيخ' الريفي، فكيف سيكون 'باشيخ' في منطقة 'اجبالة'؟
2- 'باجلود' في منطقة اجبالة مشاهدا[28]
يطلق على هذا الاحتفال شمال المغرب اسم ' با جلود ' وهي عادة ترتبط - في هذه المنطقة الجغرافية - بعيد الأضحى المبارك، تبدأ في ثالث أيام العيد، ويمكن أن تستمر إلى غاية آخر يوم من شهر ذي الحجة؛ وذلك بحسب الإقبال الشعبي الذي تلقاه في كل سنة، إذ يمكن أن تستمر من أسبوع إلى عشرين يوما، وترتبط بشكل كبير بالمظاهر الاحتفالية المصاحبة للعيد، وخاصة في جوانبها المرتبطة بعنصر الوليمة أو ما يعرف محليا 'بِالزّْرْدَه' (البوتلاتش POTLATCH)؛ فالممثلون يسعون من وراء الفرجة التي يعرضونها إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من الصدقات العينية، وخاصة من لحم أضاحي العيد.
وقبل الخروج إلى الجمهور، يرتدي البطل " الكسوة/الجلود " فوق لحمه مباشرة، إذ لا يجب أن يضع تحتها أي ملابس داخلية، فهي جلود مقدسة تستمد قدسيتها من ارتباطها بالأضاحي المقدمة قربانا لله في هذا اليوم (عيد الأضحى)، ويحمل ' با جلود ' في يده عصا طويلة جدا ليهش بها على المتفرجين، الذين يحاولون الاقتراب منه داخل الحلقة، التي يحتل مركزها.
ويشارك في هذا المظهر الاحتفالي كل سكان الدوار، حيث تحضر النساء من خلال الزغاريد، أما الرجال فيسجلون حضورهم بهتافاتهم الساخرة، في حين يؤثث الأطفال الحفل إما من خلال صرخات الألم (جراء تلقيهم ضربة مباشرة بالعصا) أو بهتافات الفرح (جراء إصابتهم لـ' با جلود ' بحجر صوبوه نحوه فأصابوه به إصابة مباشرة)، وهكذا يعلو صياح الجمع بترديد جملة من العبارات التي تصاحبها أنغام 'الغيطة' الجبلية، والتي يرومون من ورائها استفزاز 'با جلود' حتى ترتفع أكثر أسهم الفرجة والضحك فـ"يحمى الطرح"، ومما يقال في هذه العبارات/الأغاني الشعبية:
العبارات |
تعريبها |
"أ با جلود القران أ اللحية د
لفران" |
القران: الذكي، الماكر، "الحرامي"، العدو. أ لحية: اللحية. لفران:
الفرن. |
"أ با جلود العيان بالوا عليك الجديان" | العيان: التعب والمنهك القوى والقبيح،
بالوا: البول، وقد تفيد أن الجديان قد مارست عليه الجنس. |
"أ با جلود الجلدة أ اللحية د لقردة" | في هذا سخرية من لباس الشخصية ومن شكلها،
وتشبيهها بالقردة. |
كلمات
الأغنية |
اللازمة |
التعريب |
آ
وْلـِّيوْ لِيلـُو |
آ
يوا يوا |
عودوا
إليه |
آ
رْجْعُو لِيلـُو |
آ
يوا يوا |
إرجعوا
إليه |
علاش
نْسِيتُوا با جلود |
آ
يوا يوا |
لماذا
نسيتم 'باجلود'؟ |
نسيتوا
لـْقـَاعيدة دْ لـْجْدُود |
آ
يوا يوا |
نسيتم
عادات الأجداد |
آجِيواْ
ألـْعْيالْ بْالرْبَاعة |
آ
يوا يوا |
تعالوا
يا شباب جميعا |
آجِيوا
وْرِّيونا لْـْوْلاعَة |
آ
يوا يوا |
تعالوا
قدموا أمامنا الفرجة 'فرجة باجلود' |
إن هذه الدعوة الصريحة للعودة إلى ممارسة احتفال 'باجلود' من جديد، جعلتنا نتساءل عما إذا كان هذا الحفل الذي شاهدناه، بأم أعيننا، هو نفسه الحفل الذي كان يقام منذ القدم، وفي غياب إجابة مقنعة من لدن أهل المنطقة، اضطررنا للبحث في كتب الأنتروبولوجيا علنا نجد فيها ما يشفي صدورنا، وبالفعل عثرنا على أن هذا الاحتفال في الأصل كان "... لا يختلف جوهريا عن الكرنفال الريفي، غير أنه أكثر تنوعا، والشخصيات أكثر عددا. وهناك أيضا إضافة إلى ذلك شخصية الزنجية، واليهودية والقائد والمخازنية."[29]
ويشارك في الحفل -حسب الباحث نفسه- عشر ممثلين يختفون وراء أقنعة تمثل شخصيات: با الشيخ، زوجته، الحمار، الخادمة السوداء، اليهودي وزوجته اليهودية، القاضي، والقايد (القائد)، ثم الحراس (المخازنية)، فـ" 'با الشيخ ' عجوز داعر بلحية بيضاء، يلبس ' أسمالا قذرة '، ويحمل ' جلد تيس بمثابة طاقية ' وبيده سبحة من أصداف الحلزون. وأعضاؤه التناسلية بارزة للنظر: ' سير من جلد خروف بصوفه وباذنجانتان بين الساقين، في محاكاة للأعضاء التناسلية '. زوجته يمثلها ' مخنث ' متنكر، وقرعة مفرغة بمثابة قناع أنثوي، وأخريان تمثلان النهدين؛ وأخيرا طنجرة من القطران ' تمثل عطور المرأة الجبلية '. أما الذي يلعب دور الحمار، فيغطي رأسه ' بجمجمة حمار حقيقية، بيضاء، متيبسة، تبرز فكيها وأسنانها الهائلة '. حجران كبيران مخيطان في كيسين وعصا مُسَوَّدة بالقطران تمثل الأعضاء التناسلية. اليهودي يرتدي برنسا قذرا وخسيسا؛ ويحمل الشاشية المميزة وذيلي بقرة يمثلان 'سالفي بني إسرائيل'، عليه باستمرار أن يتلافى الضربات ويبكي وينوح. زوجته تحميه. تستعمل قرعتين بمثابة نهدين، جسدها ووجهها مسبوغان بالجير. القاضي بالمقابل، فخم بعمامته العظيمة المشدودة بنظام معقد من الحبال وبسبحته من أصداف الحلزون. يتأبط لوحا من الفلين يمثل مصحف القرآن الذي يستعمله لإصدار أحكام معاكسة دوما لأبسط مبادئ العقل السليم. القايد ملطخ الوجه و'بشع'. مظهره شرس، يهز سيفه باستمرار ويحمل شاشية حمراء طويلة. وأدوات طبخ كاملة عند قدميه. وأخيرا الحراس ' شاهري السيوف، بنظرة غاضبة، حقودة، متنكرين مثل القايد رئيسهم، يرقبون كلمة، أو نظرة من السيد ليهجموا على الضحية المختارة..."[31].
ويوضح الباحث بأن هذه المسرحية الشعبية تشخص لا مسؤولية كل من القاضي والقايد اللذان يستغلان نفوذهما لتحقيق مصالحهما الخاصة، في الوقت الذي يبقى فيه 'با الشيخ' مهووسا بطاقته الجنسية المنهوكة؛ التي تدفعه إلى الرغبة في ممارسة الجنس مع زوجته في كل لحظة أملا في إثبات فحولته الضائعة، أما اليهودي فيقدم في صورة عاجز جنسي (أرعن) غير قادر على تلبية شهوات زوجته اليهودية القوية؛ فيتوسل إليها محترما كل خصائص اللغة اليهودية المغربية، لكنها ترفض وتجره أمام القاضي الذي يلزمه بمضاجعتها عشر مرات كل ليلة لكنه يعجز عن تنفيذ هذا الحكم.
IV. قراءة في مسرحية 'باشيخ' الشعبية في منطقتي 'الريف واجبالة'
1- بنية المسرحية الشعبية
إن الملاحظة المتأنية لهذا الحفل المسرحي الشعبي في كل من منطقة الريف وبلاد 'اجبالة ' ستجعلنا نقف على أن:
- التنكر من خلال الاستعانة بالأقنعة.
- الاستعانة بالإكسسوارات المناسبة.
- الاعتماد على معجم الفحش والمجون وعلى اللغة الصادمة.
- تقديم صورة مخيفة لـ'با شيخ'. (وحش له أنياب وأشواك، يضرب كل من يقترب منه، مخيف...)
- تقديم صورة جد سلبية لليهودي. (بئيس، مخادع، عاجز جنسيا، يضرب بعنف، متظاهر، يتحين الفرصة من أجل الانتقام من المسلمين...)
- تقديم صورة سلبية لممثلي السلطة القضائية. (القاضي يحكم بأحكام غريبة).
- انتهاك المقدس الديني. (تحريف القرآن الكريم وتغيير قواعد الصلاة والدعوة لتركها، مسبحة مشوهة، التيمم فوق تضاريس جسد المرأة...).
- انتهاك المحظور الاجتماعي. (الإيحاء بممارسة الجنس علنا، واللجوء إلى الإشارات البذيئة...).
- التأكيد على القوة الجنسية لدى 'السود'. (لون الأعضاء التناسلية فقد اختير لها دائما اللون الأسود: باذنجان أسود).
- زمن الحفل ومدته. (بمنطقة 'اجبالة' ينظم مرة واحدة في السنة 'عيد الأضحى'، وفي الريف ثلاث مرات سنويا 'في بداية السنة الهجرية الجديدة، وفي عيد الفطر، ثم في عيد الأضحى').
- عدد الشخوص. (خمسة في الريف وعشرة عند 'اجبالة').
- الممثلون في ' اجبالة ' ينتمون إلى الطبقات الفقيرة، في حين تغيب الإشارة إلى الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها هؤلاء في الريف.
- اليهودي متزوج عند اجبالة لكنه عاجز جنسيا، بينما لا توجد إشارة إلى زواجه في الريف.
- المرأة في الريف يؤدي دورها رجل قوي البنية، وعند 'اجبالة' رجل "مخنث".
- في الريف هناك ضرب حقيقي، بينما عند ' اجبالة ' هناك تظاهر بالضرب فقط.
- تأكيد الريفيين على فساد السلطة القضائية فقط، في حين يضيف إليها 'اجبالة’ فساد السلطة التنفيذية أيضا ممثلة في القائد والمخازنية.
- القطران في الريف يجسد إفرازات زوجة 'با الشيخ'، بينما عند 'اجبالة' هو عطر هذه الزوجة.
2- تحليل المسرحية الشعبية
القوى الفاعلة
لقد آثرنا ألا نحدد السمات المميزة لكل شخصية من هذه الشخصيات تفاديا منا للتكرار؛ على اعتبار أن سماتها سبق وعرضناها في الوصف الذي قدمناه لمراحل الاحتفال الشعبي.
البنية العاملية
بما أن الشخصيات تعتبر أهم القوى الفاعلة، وتساهم بشكل كبير في تجسيد الموقف المسرحي ونموه، لا بد من الوقوف على البنية العاملية في هذا العرض المسرحي الشعبي المميز، وهكذا فإننا نجد ذاتين راغبتين في موضوع واحد، الأمر الذي يعني أننا أمام بنية عاملية متطورة، أي إننا أمام بنيتين عامليتين:الأولى على الشكل الآتي:

ملاحظة:
الصراع الدرامي
يظهر لنا منذ الوهلة الأولى تباين الرغبات بين الذاتين ( القاضي و' با الشيخ ' )، الأمر الذي سينجم عنه صراع حول الزوجة، وهو الصراع الذي عجلت به عقدة المسرحية والمتجسدة في رفض الزوجة الانصياع لرغبة الزوج، قبل أن تتفسخ البنية في الأخير بالإشارة إلى تحقيق رغبة الذاتين معا.
الأنساق والقيم الفكرية
تعتبر هذه الشخوص ذات أبعاد رمزية مهمة، تحاول أن تعكس موقفها من الواقع المعيش، فهي تبدو مخلصة لقناعاتها، فالبطل يرمز للرجل الشمال إفريقي الذي يختزل رجولته في فحولته فقط، في حين تبدو المرأة مجرد كائن جنسي مفعول بها بالأساس فهي لا تملك إرادتها بيدها، أما القاضي فيرمز للاستغلال والابتزاز الذي يطبع هذه الفئة، في حين يمثل اليهودي قيم الخديعة والمكر. وهكذا يمكن أن نصنف قيم هذه المسرحية الشعبية إلى ثيمتين أساسيتين هما: فساد المجتمع، وفساد السلطة.
تعالق الزمان والمكان
الخطاطة السردية
- البداية: دخول الممثلين إلى فضاء العرض.
- العنصر المخل: مناوشة واستفزاز ' با الشيخ ' من طرف الجمهور.
- العقدة: رغبة البطل في ممارسة الجنس، ورفض الزوجة، ثم جرها إلى بيت العدالة.
- النهاية: انتهاك المقدس الاجتماعي والديني من خلال الإيحاء بالممارسة الجنسية الجماعية، وتحريف القرآن وتغيير طريقة الصلاة، و...
خلاصة
نسجل في هذه الفرجة قيامها الكلي على عنصر التنكر الاحتقاري؛ تنكر سلبي ينزل بالإنسان من مرتبة التكريم الذي خصه به الله عز وجل إلى مرتبة الحيوان بل أضل سبيلا، ولعل هذا ما يسمح بكل ذلك الانتهاك الذي تتعرض له كل المقدسات في هذه الفرجة، بما أن الفاعل الأساس غير عاقل، فتتميز لغة المسرحية/المسخرة بالمجون والفحش، وتعتمد بالأساس على اللغة العامية، كما تتميز باعتمادها المطلق على السخرية والاستهزاء والالتماس، مع حضور بارز لشخصية ' اليهودي ' المنبوذ والذي يتعرض للعنف طيلة أطوار هذه الفرجة لانتهازيته ومكره.
هكذا إذن تحاول فرجة ' با الشيخ ' تسليط الضوء على بعض العيوب الاجتماعية من خلال التركيز على تسويق مجموعة من القيم والأنساق الفكرية السلبية بشكل فج وصادم، وهو الأمر الذي يدفع إلى تحقيق نوع من التطهير ( الكاتارسيس CATHARSIS)، باعتماد عنصر الصراع الدرامي، مع تركيزها على انتهاك المقدس الاجتماعي والديني بشكل مبالغ فيه، في إشارة يمكن أن نفهم منها نوعا من الحكم على كون كل هذه العيوب، التي تنتشر وتطبع المجتمع والسلطة معا، لا تمت للإسلام بصلة، ومن ثم وجب إعادة النظر فيها ومعالجتها، وإن كانت بعض الدراسات ترجع هذا الانتهاك إلى " وجود يد يهودية خفية هي التي تدنسه وتحمِّله كل هذا الفحش اللاأخلاقي."[32]
ولعل عنف الانتهاك الذي يتعرض له المقدس الديني خلال هذه الفرجة، سار بها نحو الانقراض شيئا فشيئا، حيث أصبحت هذه الفرجة منبوذة ومكروهة من طرف أغلب الفئات الاجتماعية المغربية فصدر القرار بـ" أن يكفوا عن لعب بيلماون"[33]، لكن ولحسن الحظ، بقيت بعض المناطق محافظة على هذا الحفل ولكن بشكل مغاير، تماما، لما كان عليه الأمر في الماضي، وهو ما تؤكده هذه الصور الفوتوغرافية، الحديثة، التي حصلنا عليها لاحتفالات ' با جلود ' في منطقة اجبالة.