📁 تدوينات جديدة

الفلسفة من رماد الاستعمار: قراءة في كتاب منى قجيع عن التفكير من داخل الجرح الكولونيالي

الفلسفة من رماد الاستعمار: قراءة في كتاب منى قجيع عن التفكير من داخل الجرح الكولونيالي

يأتي هذا الكتاب في سياق فكري وسياسي معقّد، حيث تتقاطع الأسئلة حول الهوية، الحرية، والمعرفة في عالمٍ لم يتحرر بعد من آثار الاستعمار. إنّ عبارة «الفلسفة مستحيلة في عالم كولونيالي» تُثير إشكالا جوهريا: هل يمكن للفكر الفلسفي أن يُزهر في بيئة ما زالت تعيش تحت هيمنة رمزية وثقافية واقتصادية؟ وهل غياب استقلالنا الفكري يعني أننا لم نتفلسف بعدُ، أم أن فلسفتنا تتخذ شكلا مغايرا لما أرسته المعايير الغربية؟

الكتاب يفتتح بسؤال تأسيسي: «لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟»، وهو سؤال يضع الكاتب في مواجهة ذاته، كما يضع الفكر الفلسفي في مواجهة شروط إمكانه داخل العالم الكولونيالي. ثم تتوالى مجموعة من المقالات التي تحاور فلاسفة من عصور وثقافات مختلفة، لتعيد طرح سؤال الفلسفة من موقع الذات المقهورة والباحثة عن حريتها.

1. الكتابة كفعل فلسفي وموقف وجودي

تبدأ المؤلفة من سؤال الكتابة بوصفها فعلا فلسفيا وموقفا وجوديا. فالكتابة، في هذا السياق، ليست إنتاجا للنصوص فحسب، بل هي تعبير عن الوعي بالذات وبالعالم. حين يسأل الكاتب «لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟»، فإنه لا يطرح سؤالا أدبيا بل فلسفيا بامتياز، لأن الكتابة هنا فعل مقاومة ضد النسيان، وضد الإقصاء الذي مارسه التاريخ الاستعماري على الشعوب غير الأوروبية.

إن الكتابة الفلسفية في العالم الكولونيالي هي محاولة لاستعادة الصوت المسلوب، وإعادة إنتاج المعنى من خارج مركزية الفكر الغربي. لذلك، تتحول الكتابة إلى أداة تحرر، وإلى وسيلة لتفكيك علاقة التبعية التي تجعلنا نتفلسف من داخل قوالب ليست لنا.

2. استحالة الفلسفة في العالم الكولونيالي: بين النقد والتأسيس

عبارة "الفلسفة مستحيلة في عالم كولونيالي" تُعبّر عن موقف نقدي مزدوج:

من جهة، تفضح هيمنة الخطاب الفلسفي الغربي الذي جعل من ذاته المرجع الوحيد لما يُعتبر "تفكيرا فلسفيا"؛ ومن جهة أخرى، تكشف هشاشة الممارسة الفكرية في المجتمعات ما بعد الاستعمار، التي كثيرا ما أعادت إنتاج المفاهيم الغربية دون مساءلتها.

لكنّ السؤال الذي يلي العنوان – «فهل يعني هذا أننا لم نتفلسف بعدُ؟» – يفتح أفقا آخر للتفكير. فربما لم ننتج بعد فلسفة بالمعنى الأكاديمي الغربي، لكننا مارسنا التفلسف بوصفه نقدا وتأملا في الوجود، وفي علاقتنا بالحرية والهوية والتاريخ.

هنا يميز الكاتب بين الفلسفة كنسق مغلق والتفلسف كفعل حي، ليؤكد أن إمكان الفلسفة لا يُقاس بالانتماء إلى مدرسة فكرية، بل بالقدرة على مساءلة الواقع وتحرير الفكر.

3. تعدد الفلاسفة وتعدد زوايا النظر

يضم الكتاب سلسلة من المقالات التي تتناول فلاسفة من الشرق والغرب، ومن العصور القديمة والحديثة. هذا التنوع ليس هدفه العرض الأكاديمي فقط، بل هو استراتيجية فلسفية تسعى إلى إعادة قراءة هؤلاء الفلاسفة من منظور محلي، من داخل تجربة الوعي الكولونيالي.

فقراءة نيتشه أو ديكارت أو ابن رشد في سياق كولونيالي ليست تكرارا لما قالوه، بل هي تفكير في إمكان القول ذاته: كيف نفكر ونحن نحمل في ذاكرتنا أثر الآخر وهيمنته؟ كيف نمارس النقد دون أن نعيد إنتاج أدوات الهيمنة نفسها؟

من خلال هذه القراءات، يحاول الكاتب تفكيك المركزية الفلسفية الغربية، وفتح إمكان فلسفة بديلة، تنبع من التجربة التاريخية للشعوب المستعمَرة، ومن حاجتها إلى التفكير الحر.

4. نحو فلسفة التحرر

الفلسفة التي يدعو إليها الكتاب ليست مجرد تأمل ميتافيزيقي، بل هي فلسفة تحررية، تجعل من التفكير أداة لمقاومة التبعية.

فالتحرر لا يبدأ من السياسة، بل من الفكر؛ من القدرة على مساءلة المفاهيم التي تشكل وعينا بالعالم.

بهذا المعنى، الفلسفة الممكنة في العالم الكولونيالي هي تلك التي تربط الوعي بالنقد، والنقد بالتحرر، وتجعل من التفلسف ممارسة يومية للحرية.

إن القول إن "الفلسفة مستحيلة في عالم كولونيالي" لا يعني الاستسلام، بل هو إعلان عن وعي جديد.

الفلسفة لا تُولد في الفراغ، بل في مواجهة القيد. والاستعمار، بما خلفه من آثار ثقافية وفكرية، جعلنا نعيش مأزقا مزدوجا: نرغب في التفلسف، لكن بلغات ومفاهيم ليست لنا.

ومع ذلك، فكل محاولة نقدية، وكل كتابة حرة، وكل مساءلة جريئة للواقع، هي خطوة أولى نحو فلسفة التحرر.

إذن، نعم، ربما لم نتفلسف بعد بالمعنى الغربي للكلمة، لكننا نمارس التفلسف بالفعل، حين نفكر من داخل جرحنا التاريخي، ونحوّل الذاكرة إلى وعي، والوعي إلى حرية.



تعليقات