مقدمة
منذ الثمانينيات، تَظهر أعمال لورنا سمبسون كما لو
كانت تُفكِّك فعل النظر نفسه: تُغيِّب الوجوه عمداً، تُجزِّئ الجسد، وتضع الكلمات بجوار
الصُوَر كي تُربِكَ يقيننا بشأن مَن يرى ومَن يُرى. هذا التحويل الدائم لزوايا الرؤية،
not just what
we look at, but how we look، هو ما جعل سمبسون واحدة من أهمّ الأصوات التي
أعادت تعريف الصورة الفوتوغرافية وما بعد الصورة في الفن المعاصر.
البدايات وتكوين اللغة البصرية
وُلدت سمبسون في بروكلين عام 1960، وتلقّت تكويناً
فنياً منضبطاً: بكالوريوس تصوير من مدرسة الفنون البصرية في نيويورك، ثم ماجستيراً
من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. هناك، خرجت من برنامج الدراسات العليا عام 1985
وقد تبلورت لديها حساسية مفاهيمية مبكّرة ستطبع مسيرتها كلها.
في تلك السنوات، راكمت سمبسون معرفة تقنية بالتصوير،
لكنها كانت تشكّ، مبكراً، في “موضوعيته” المزعومة. منذ عملها “إيماءات/إعادات تمثيل”
(1985)، بدأت تصوغ معجماً بصرياً يتعمّد حذف الوجوه ويستبدلها بنصوص قصيرة محفورة على
بلاكات سوداء؛ نصوص لا تشرح الصورة بقدر ما تُنشئ توتّراً دلالياً معها. هذه الاستراتيجية
ستبلغ نُضجها في أعمال أواخر الثمانينيات.
اختراع الأسلوب: الصورة-النص كأداة نقدية
من أشهر أعمال تلك المرحلة “توقّعات خمسة أيام”
(1988)، وهو تركيب من خمس صور فوتوغرافية لامرأة من دون وجه، تتكرّر فيها وقفة الجسد
والذراعان المتشابكتان مع شريط من الكلمات. العمل يضعنا أمام لعبة تَكرار تُظهر كيف
تصنع الصور الرسمية أنماطاً من التعرُّف والمراقبة. ليس الجسد هنا موضوعاً جمالياً؛
إنه موقع اجتماعٍ لعلاقات سلطة تُحاكم المرأة السوداء بين يومٍ ويوم.
بعده بعام، جاء عمل “ظروف محروسة” (1989): ثمانية
عشر بولارويداً ملوّناً مع واحدٍ وعشرين لوحاً محفوراً. التقطت سمبسون الظهر نفسه والذراعين
خلف الظهر في سلسلة “بورتريهات بلا وجه”، ثم وضعت بجوارها مفردات تُذكِّر بمصطلحات
الطب والشرطة والعبودية، لتربط بين تقنيات الرؤية الحديثة وأرشيف طويل من المراقبة
الجسدية. هكذا يتحوّل البياض المعملي لخشبة الفحص إلى مسرح تاريخي: من مزادات العبيد
إلى صفوف التعرّف الجنائي.
أو خُذ “حاملة الماء/Waterbearer” (1986): امرأة
تُفرغ الماء من إناء معدني وآخر بلاستيكي، وصفيحة نصّ تقول: “رأته يختفي قرب النهر…
طلبوا منها أن تقول ما حدث، ثم أسقطوا روايتها.” تشتغل سمبسون هنا على مفارقة الجسد/الصوت:
المرأة تُرى لكنها لا تُصدَّق؛ المياه تندلق كذاكرة تُفقَد مرتين.
بهذه الأعمال أسّست لطرائق قراءة لا تفصل الجمالي
عن المعرفي: الصورة عندها “حجّة” تفكّك خطاب التمثيل، والنصّ “أداة انحراف” تُعيد توجيه
المعنى بعيداً من التلقّي البصري الكسول.
المؤسسة والمتاحف: اعتراف مبكِّر وتوسّع لاحق
بالتوازي، كانت المؤسسات تلتقط فرادة هذا الصوت:
عام 1990 استضاف متحف الفن الحديث في نيويورك عرض Projects 23 ضمن سلسلة “مشاريع”،
في إشارة مبكّرة إلى حضورها في قلب المشهد المؤسسي. لم تكن مجرّد موهبة صاعدة؛ كانت
تُدفَع لتحتكّ مباشرة بأسئلة كيف تُعرض تلك الأعمال، وأين تُوضَع، ومع أي أرشيف تُحاوِر.
من الصورة إلى اللوحة: عبور وسائط لا يتخلّى عن المفهوم
ابتداءً من منتصف العقد الثاني للألفية، ستوسّع سمبسون
وسائطها على نحو دراماتيكي: لوحات كبيرة، طباعة حريرية على الفيبرغلاس، كولاجات تستعير
صوراً من مجلات Ebony وJet، وتعيد حلاقتها، حرفياً، عبر شعر مستعار وأقنعة
وتسريحات تتحوّل إلى خرائط هوية. هذا الانتقال إلى الرسم لم يكن ترخيصة لمتعة اللون؛
كان استمراراً للتفكير في كيفية عمل الصورة.
في معرضها “الأرض والسماء” (هاوزر آند ويرث،
2024–2025)، بدت اللوحات كما لو أنها تصغي إلى قوى غير مرئية: شظايا نيازك، مخرزات
رصاص، وطبقات من أرشيف علمي يعود إلى كتاب 1929 عن المعادن. هنا تتقاطع الميتافيزيقا
مع الفيزياء الاجتماعية: أثر العنف المادّي على الذاكرة، وأثر الذاكرة على ما نراه
كـ“طبيعة” .
المتحف كمختبر قراءة
بلغ هذا المسار ذروته مع تقديم المتحف المتروبوليتان
بنيويورك عرضاً موسّعاً لرسوماتها ولوحاتها في 2025، بوصفه أوّل تقديم ينظر إلى مجمل
ممارستها التصويرية-اللوحية معاً: كيف تُعيد تدوير صور التاريخ، وتُزاوج طبقات الطباعة
بالطلاء، وتستدعي أرشيف العلم للحديث عن الجسد والعرق والذاكرة. بدلاً من “تأريخ” خطّي،
يُفضِّل العرض سرد طبقات متراكبة من الرؤية.
“كسر الإطار”: ماذا يعني بالضبط؟
حين يصفها النقد بأنها “كسرت الإطار”، فالمقصود ليس
تجاوز حدود التصوير إلى الرسم فحسب، بل هدم افتراض أن الإطار—المادي والمفاهيمي—يضمن
الحقيقة. في أعمالها المبكّرة، كان الإطار هو ذلك المستطيل الذي يَحُدّ الجسد ويجعله
موضوعاً للتحكّم؛ عبر الحذف النصّي والقطع البصري، كانت سمبسون تُعرّي هذا التحكّم.
في أعمالها اللوحية، يتفتّت الإطار إلى طبقات، تمتزج فيها الاستعارة العلمية (نيزك،
مقطع جيولوجي، أثر طلقة) بسرديات الذاكرة السوداء في القرن العشرين، فتنتقل من نقد
الصورة إلى كونيات تمثيلية: من غرفة الفحص إلى القبة السماوية، ومن شاهد الشرطة إلى
غبار النيازك. هذا ما تلتقطه قراءة “النيويوركر” حين تربط بين أرشيف سمبسون ومفهوم
“كيف ننظر” أكثر من “إلى ماذا ننظر”.
الشعرية المفاهيمية: لغة الجسد ولغة الكلمة
تُشبه أعمال سمبسون قصائد بصرية. الكلمات محفورة
وقليلة، لكنها قاطعة. إنّها لا تُعلِّق على الصورة بل تُقاطعها، وتفتح ممرّاً جانبيّاً
لفهمٍ بديل. من هنا تأتي قوتها التربوية: المتلقي مضطرّ إلى المشاركة في إنتاج المعنى.
كل لوحة أو تركيب بمثابة تمرين على القراءة النقدية للصور اليومية والإعلامية، تلك
التي تُمرَّر عادةً بوصفها “شفافة”. وهذا ما يمنح أعمالها عمراً أطول من لحظة المعرض؛
لأنها تعلّمنا مهارة بصرية يمكن حملها إلى خارج المتحف.
الأرشيف: من شعر الرأس إلى “غبار” الفضاء
يشغل الأرشيف موقعاً مركزياً في مشروع سمبسون. في
سلسلة الكولاج المعتمدة على صور Ebony، يتحوّل الشعر—بوصفه ساحة صراع تاريخية حول التمثيل—إلى
بنية معمارية تُعيد ترتيب الوجوه؛ تلبسها سماءً أو هندسة أو ظلّاً. وفي أعمال 2024–2025،
يصبح الأرشيف كتاباً علمياً قديماً عن المعادن والسماء. كأنّ المادّة التي تُشكّل أجسادنا
تمتدّ في الزمن إلى خارج التاريخ الاجتماعي، لكنها تعود لتصطدم به في كل لقطة. هذه
الحركة، بين الفلكي والحميمي، هي ما يُعطي لوحاتها الأخيرة حدّتها الهادئة.
السؤال الأخلاقي: مَن يملك الصورة؟
منذ البداية، كانت سمبسون تُقلقل فكرة “الإذن” في
التصوير: هل يحقّ للصورة أن تقتنص جسداً، ثم تعرِّفه وتؤبِّده وتُسميه؟ عبر إخفاء الوجوه،
تُحيلنا إلى مجاز قانوني: الشاهد المجهول الذي يمسك بحكايته من غير أن يسلّمها كلياً
لمؤسسة النظر. لذلك لا نجد عندها وثائقية مباشرة ولا بورتريهات سِيَرية؛ نجد فضاءً
تفاوضياً بين ما تسمح به الذات وما تطلبه اللقطة. هذا التوتّر، الذي بدأ مع الفوتوغرافيا،
بقي حياً في اللوحات: كل سطحٍ لوحيّ عندها شهادةُ عطبٍ في يقين التمثيل، لا “صورة جميلة”
فحسب.
التعليم الذاتي والجماعة الفنية
لا تعمل سمبسون في عزلة. جزء من تأثيرها يأتي من
التبادلات مع فنانين ونقّاد ومؤسسات؛ ومن شراكاتٍ عائلية أيضاً—سواء عبر مشاريع مشتركة
أو حوارات مع ابنتها المصوّرة/الفنانة. هذه الشبكة من الحوارات تُغذّي عمق مشروعها،
وتُبقيه مفتوحاً على أجيال لاحقة من الفنانات اللواتي يختبرن، مثلها، كيف تُكتب الهوية
على سطح الصورة.
قراءة في “الأسلوب”: وضوح يُفضِّل الغموض
على الرغم من كثافة المراجع، لا تُغرق سمبسون المشاهد
في “معنى جاهز”. أسلوبها يفضّل الغموض المنضبط: علامات قليلة، علاقات دقيقة، وصمت مقصود.
إنّها تعرف متى تترك فراغاً بصرياً، ومتى تضع كلمة واحدة على البلاكة السوداء لتقلب
اتجاه القراءة. في اللوحات الكبيرة، تمسك بالتوازن بين طبقات الطباعة والعَقْد اللونية،
فلا تُسقط العمل في زخرفة شكلية ولا تُفرغه من حسية المادّة. حتى عندما تستدعي تواقيع
العنف—كآثار إطلاق النار—لا تفعل ذلك لتُصدم، بل لتصنع أثراً بصرياً يَشي بما لا يُقال.
أثرها اليوم: مدرسة في “الرؤية النقدية”
تاريخياً، فتح جيل سمبسون الباب لقراءة مختلفة للتمثيل؛
لكنه أيضاً منح مؤسسات الفن أسئلة لا تزال تُقلِق السياسات المتحفية: كيف نؤرشف الأرشيفات
الهشّة؟ كيف نمنح “اللاوجه” حقَّ الحضور؟ وما الحدود الأخلاقية لإعادة تدوير صور تاريخية
أُنتجت أصلاً لتسويق سلعة أو لتثبيت سردية سلطوية؟ إنّ استدعاء سمبسون لأرشيف الإعلانات
الخاصة بالنساء السود—ثم تحويله إلى سردية مُقاوِمة—يلخّص جزءاً من هذا الأثر. ليس
غريباً إذن أن يتواصل اهتمام الصحافة الفنية والمتاحف العالمية بمراحل عملها كافة:
من الفوتوغرافيا المفاهيمية إلى اللوحات الكونية الأخيرة.
لماذا تهمّنا لورنا سمبسون الآن؟
لأنها تُذكِّرنا، ببساطة، أن الصورة ليست مرآةً بريئة.
منذ “توقّعات خمسة أيام” حتى لوحات “الأرض والسماء”، لا تكفّ سمبسون عن محاكمة البنية
التي تُنتج صورنا كلّ يوم: المدرسة والمتحف والإعلان والإعلام والعلم. تُعيد ترتيبها
كقطع فسيفساء، وتتركنا أمام لغزٍ أخلاقي وجمالي: ماذا يعني أن ننظر، ونحن نعرف—أخيراً—أن
الإطار نفسه طرفٌ في القصة؟ إنّها فنانة تُعلِّمنا كيف نُبصر ببطء؛ كيف نقرأ ما تُخفيه
الصورة بقدر ما تُظهره. وهذا، في زمن التدفّق البصري المفرط، ليس ترفاً نقدياً، بل
مهارة للعيش.
المراجع:
·
Julian
Lucas, «How
Lorna Simpson Broke the Frame», The New Yorker, 2025. (The New Yorker)
· · السيرة والمعارض على الموقع الرسمي للفنانةlsimpsonstudio.com
· · متحف هيرشهورن: بطاقة عملFive Day Forecast (1988) hirshhorn.si.edu
· · هاوزر آند ويرث: معرض Earth & Sky (2024–2025). (Hauser & Wirth)
· · بيان متحف المتروبوليتان حول عرض 2025 ومراجعات صحفية. The Metropolitan Museum of Art
· · مقالة The Art Story عن Waterbearer (1986). (The Art Story)
· · موسوعة بريتانيكا: سيرة موجزة وتواريخ الميلاد والدراسة. (Encyclopedia Britannica)
· · MoMA: سجلّ المعارض وسلسلة Projects 23 (1990). (The Museum of Modern Art)