كانت الطفولة وطنا صغيرا نحتمي به من غبار العالم، زمنا نقيا يشبه النور
حين يلامس وجوهنا أول الصباح. كنا نعيش في عالم ساحر لا تحده حدود، تحتضننا فيه
أجنحة الأحلام، وتحملنا بعيدا في أزقة صغيرة تتلألأ كأنها خرائط سحرية تقودنا إلى
حدائق زهرية تفوح بعبق الفرح. هناك، كان القلب مطمئنا كغصن في الربيع، نركض حفاة
على الرمل الناعم، نلاحق الفراشات، ونضحك من عمق البراءة كأننا نكتشف الكون للمرة
الأولى.
في تلك الأيام لم يكن الزمن يقاس بالساعات، بل بنبض الضحكات وعدد المرات
التي يعانق فيها النور أعيننا. كانت الساعة الرملية تدور ببطء ووداعة، لا نعرف
فيها معنى الغد، ولا نخشى من المجهول. كنا نعيش اللحظة بكل ما فيها من دهشة وصفاء،
نشيد أبراج الأحلام بأيد صغيرة وقلوب عظيمة، لا نهاب سقوطها لأننا كنا نؤمن أنها
ستنهض من جديد، كما تنهض الزهور بعد المطر.
كبرنا، لكن عبير تلك الأيام لم يزل عالقا في الذاكرة، يسكننا كوشم من ضوء
لا يبهت مهما طال الزمان. تعلمنا من الطفولة أن نحلم بلا خوف، وأن نرسم على ورق
الحياة خطوطا من الأمل مهما تكاثفت الغيوم. علمتنا أن القلب حين يظل نقيا، تظل
الروح قادرة على الطيران، وأن البراءة ليست مرحلة من العمر، بل حالة وجود متجددة
تمنحنا القدرة على البدء من جديد.
الطفولة لم تكن مجرد عمر مضى، بل كانت درسا أبديا في الحب والدهشة. هي
الذاكرة التي تذكرنا بأن الفرح ممكن، وأن النقاء لا يموت إن وجد قلبا يحتضنه.
لذلك، فلنحمل تلك الطفولة في أعماقنا، نحفظها كما يحفظ الكنز، نغذيها بالأمل،
ونستعيدها كلما ضاقت بنا دروب الحياة. فكل إنسان يحتفظ في داخله بطفل صغير، يبتسم
كلما تذكر الفراشات والضحكات الأولى، ويذكره أن أجمل ما في العمر هو ما يسكن القلب
لا ما تقيسه السنوات.
تلك هي الطفولة الساحرة، هدية الوجود الأولى، وسر بقاء الإنسان إنسانا.
فلنصنها فينا كنبع صاف لا ينضب، وكذاكرة تهمس لنا دائما: كن طفلا ما استطعت،
فالحياة لا ترى إلا بعين البراءة.
