📁 تدوينات جديدة

صنع الله إبراهيم: الوداع الذي يجدد القراءة

صنع الله إبراهيم: الوداع الذي يجدد القراءة
 

◼ أصداء الفكر 

مدخل

رحل عن عالمنا الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم في 13 أغسطس/آب 2025 عن عمر ناهز 88 عاما، بعد وعكة صحية بسبب التهاب رئوي. وقد نعته الأوساط الثقافية، مؤكدة مكانته بوصفه أحد أبرز الأصوات السردية التي صاغت تطور الرواية العربية الحديثة خلال العقود الستة الماضية. هذه السطور ليست تأبينا عابرا، هي قراءة في إرث أدبي تشكل من نصوص حفرت أسماءها في ذاكرة الثقافة العربية، وامتد أثرها إلى لغات وثقافات أخرى(1).

ملامح مشروع سردي متفرد

تميزت تجربة صنع الله إبراهيم بنفس توثيقي واضح: نصوص تتشابك فيها السردية الروائية مع تقنيات الصحافة وتسجيل اليوميات والاقتباسات من مواد مطبوعة، دون أن تفقد حسها الفني أو لغتها المكثفة. هذا المزج بين الوثيقة والخيال منح أعماله طابعا واقعيا دقيقا، وجعل من رواياته سجلا ثقافيا واجتماعيا لتحولات الإنسان والمكان في مصر والعالم العربي. وقد لفتت مراجعات ودراسات عديدة إلى هذا المنحى الذي يزاوج الاقتصاد اللغوي بالتركيب البنائي المحسوب، ويؤطر الشخصية في بيئتها التاريخية والحياتية(2).

أعمال ترسم خريطة المشهد

تبدأ الخريطة من "تلك الرائحة" (1966)، النص المؤسس لخصوصية صوته السردي، ثم "نجمة أغسطس"، "اللجنة"، "بيروت… بيروت"، "ذات"، "شرف"، "أمريكانلي"، "الجليد"، "العمامة والقبعة"، "برلين 69"، و"1970" وغيرها. لا تقرأ هذه العناوين بوصفها سردا متتابعا فحسب، بل بوصفها محطات جمالية تعيد ابتكار طريقة النظر إلى الواقع عبر بنية توثيقية بالغة الاقتصاد والإيحاء. وتفيد البيبليوغرافيا العربية في ترتيب هذه الأعمال وتواريخها وتلقيها النقدي(3).

من الصفحة إلى الشاشة

لم تبق رواياته في حدود الورق؛ إذ شقت "ذات" طريقها إلى دراما الشاشة الصغيرة في مسلسل "بنت اسمها ذات"(2013)، بما عزز حضور عالمه السردي لدى جمهور أوسع، وكرس القيمة الدرامية لمادته الروائية القابلة للاقتباس، مع الحفاظ على الروح العامة للنص. وقد أشير إلى نجاح العمل وتأثيره في تقديم بانوراما اجتماعية طويلة المدى(4).

لغة مقتصدة… ورؤية بعين المصور

من السمات اللافتة في كتابة صنع الله إبراهيم الاقتصاد اللغوي وتجنب الزخرفة المجانية؛ فالجملة عنده تؤدي وظيفة دلالية مباشرة، لكنها لا تتخلى عن الإيحاء. وتوزيع المقاطع والفقرات يشي بوعي بصري؛ حيث ترى المدينة، والناس، وتفاصيل الحياة اليومية بعيون تشبه عدسة المصور الوثائقي. لهذا بدا كثير من نصوصه صالحا لتلقي القراءات متعددة الزوايا: اجتماعية وثقافية ولغوية، دون أن يغرق في التنظير أو الخطابة. وقد وصفت قراءات حديثة مساره بأنه أحد أركان السرد العربي الحديث و"ابتكار سردي" يتقدم بالتجريب دون أن يفقد صلته بالقارئ(5).

حضور محلي وعالمي

امتد صدى أعماله إلى قراء غير عرب عبر ترجمات إلى الإنجليزية والفرنسية وغيرها، ما ساعد على إدراج عدد من رواياته في كتالوجات دور نشر دولية مرموقة، وإعادة تقديمه كصوت عربي فريد في مشهد الأدب العالمي. تجد مثلا أعماله في قوائم New Directions  وSeagull Books، مع تقديمات نقدية تبرز فرادة أسلوبه وقدرته على إعادة اختراع الشكل الروائي. هذا الامتداد لا يكتفي بترجمة العناوين، إنما يفتح حوارا نقديا حول تقنياته وموضوعاته وزوايا نظره.

صنع الله إبراهيم: الوداع الذي يجدد القراءة

أثره في الأجيال والقراءة العربية

أثر صنع الله إبراهيم يتبدى في أمرين:

1.      تثبيت الوثيقة عنصرا بنائيا لا يفسد جمالية السرد، بل يثريها.

2.      توسيع مدونة اليومي داخل الرواية العربية، حيث تتحول التفاصيل الصغيرة إلى كاميرا ترصد تغير الزمن ومعناه في حياة الناس.

وقد جاء نعي مثقفين عرب وغربيين ليضعه في مصاف الروائيين الذين شكلوا ذائقة سردية لجيل كامل، مع إشادات بقدرته على الجمع بين الصرامة الفنية والصدق الإنساني(6).

الجوائز والتقدير

لا يقاس إرث الكاتب بالجوائز وحدها، لكن ما ناله من تقدير عربي يشي بموقعه الرفيع؛ فقد ذكر ضمن الفائزين بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية (قسم القصة والرواية والمسرحية) في أوائل التسعينيات، كما تذكر له جوائز عربية أخرى في مسيرته. هذه الإشارات تؤطر التقدير المؤسسي لمشروعه، وتضيء الصورة إلى جانب التلقي النقدي الواسع(7).

الوداع الذي يجدد القراءة

أحيانا يكون الرحيل بداية موجة قراءة ثانية. وقد شهدت الصحافة الثقافية العربية في الأيام التي تلت رحيله مقالات وملفات تستعيد تجربته بمقاربات نقدية متنوعة، بين من يقرأه من زاوية الفن الخالص ومن يدرسه بمنهج السرد الوثائقي وحدود التخييل. هذه العودة إلى أعماله تمنح القارئ مفاتيح جديدة لاكتشاف نصوصه بعيدا عن أي حساسيات أو تأويلات حادة، وتدعو إلى قراءة تتلمس الإنساني في شخوصه وعوالمه.

لماذا يبقى صنع الله إبراهيم حاضرا؟

يبقى لأن مشروعه يجيب عن أسئلة جوهرية في الرواية العربية: كيف نكتب الواقع دون أن نسطحه؟ وكيف نجمع بين صرامة البنية ودفء الإنسان؟ لقد قدم نموذجا للكاتب الذي يعيد ابتكار أدواته في كل عمل، ويراهن على القارئ شريكا لا متلقيا سلبيا. من هنا، لا تنحصر قيمته في موضوعات رواياته، بل في طريقة الكتابة ذاتها؛ طريقة تبقي على المسافة بين الرواة والشخصيات، وتسمح ببناء المعنى بالتراكم والإيحاء، لا بالإملاء المباشر.

إرث الكلمة

برحيل صنع الله إبراهيم، نخسر الكاتب ونربح مكتبة كاملة تعلمنا أن الرواية ليست مرآة مسطحة، بل عدسة تعيد تشكيل المشهد وتمنحه طبقات من الدلالة. "صنع الله إبراهيم: إرث الكلمة التي لا ترحل" يلخص هذا المعنى: الكلمة تتجاوز هنا كونها أداة سرد فحسب إلى اعتبارها فعل حفظ للذاكرة وتوسيع لأفق التلقي. وسيظل هذا الإرث حيا بقدر ما يواصل القراء والباحثون العودة إلى عوالمه، وتدريس تقنياته، وترجمة نصوصه، وفتح الحوار حولها.

صنع الله إبراهيم: الوداع الذي يجدد القراءة

الإحالات

1. الجزيرة نت، سكاي نيوز عربية

2. Almajalla

3. Wikipedia

4. Wikipedia، بوابة نيوز

5. The Arab Weekly

6. ARABLIT & ARABLIT QUARTERLY

7. Wikipédia, Alowais



تعليقات