📁 تدوينات جديدة

بول أوستر: صانع المصادفة ومقيم المتاهة

بول أوستر: صانع المصادفة ومقيم المتاهة

حين يذكر كتاب ما بعد الحداثة ممن شقوا لأنفسهم طريقا إلى القارئ العام دون أن يتنازلوا عن أسئلتهم الجمالية والفلسفية، يحضر اسم الأميركي بول أوستر بوصفه واحدا من أكثر الأصوات فرادة وتأثيرا. ولد أوستر في نيوآرك بولاية نيوجرسي عام 1947، ونسج عبر خمسة عقود مشروعا أدبيا يتقاطع فيه السرد البوليسي المتشظي مع التأمل الوجودي في الهوية والذاكرة والصدفة، إلى أن رحل في 30 أبريل/نيسان 2024 عن 77 عاما بعد صراع مع سرطان الرئة. 

تكونت حساسيته المبكرة من حوادث وتجارب ظلت تعود في كتبه بصيغ واستعارات مختلفة. يروي أصدقاء سيرته أن صدمة عاشها في الرابعة عشرة — حين شاهد صاعقة تودي بحياة زميل أمام عينيه — تركت أثرا غائرا في نظرته إلى هشاشة المصير وحضور المصادفة، وهي ثيمة تكاد تكون “القانون السري” الذي يحكم عوالمه الروائية. كما صاغت سنواته الأوروبية الأولى بوصفه مترجما في فرنسا ذائقته اللغوية ووعيه بالموروثين الأميركي والأوروبي معا. وقد كان شروعه الحقيقي في الكتابة النثرية مع «اختراع العزلة» (1982)، قبل أن تبلغ شهرته ذروتها مع «ثلاثية نيويورك» (1985–1987): «مدينة الزجاج»، «الأشباح»، و«الغرفة المغلقة»، حيث يصبح التحقيق الجنائي ذريعة لفحص انشقاقات الذات وتحولات اللغة.

ينتمي أوستر إلى ذلك النسل من الكتاب الذين يعيدون ابتكار أدوات الحكاية من داخلها. فبنية «الثلاثية» ليست مجرد لعبة مرايا بين الكتاب والشخصيات، بل هي أيضا مختبر لفكرة “الأنا المضاعف” الذي يطارد ظلاله، ويبحث عن معنى في مدينة تتكلم بقدر ما تضلل. ولذا وجد فيه القراء جسرا بين التشويق والبحث الفلسفي: سرد يستدرجك بآليات الرواية البوليسية، ثم يتركك أمام أسئلة عن اللغة وقدرتها على القبض على الواقع، وعن القدر ومدى مسؤوليتنا حياله.

في التسعينيات والألفية الجديدة وسع أوستر هذا المعمل السردي: «كتاب الأوهام»، «ليل الأوراق»، «قصر القمر»، «اختراع العزلة»، «بروكلين فوليز»، وغيرها؛ غير أن المغامرة البنيوية الكبرى جاءت في «4 3 2 1» (2017)، الرواية الضخمة التي تطرح أربع نسخ متوازية لحياة بطل واحد عبر مفترقات طفيفة تفضي إلى مصائر متباينة. هاهنا يبلغ هاجس “الاحتمالات” أقصاه: ماذا لو اتخذ قرار آخر في لحظة ما؟ رشحت الرواية للقائمة القصيرة لجائزة “مان بوكر” في العام نفسه، في اعتراف نقدي بقدرتها على توسيع جغرافيا السرد دون أن تفقد حرارة التجربة الإنسانية التي تقطر من صفحاتها.

بول أوستر: صانع المصادفة ومقيم المتاهة

لم يكن أوستر روائيا فقط؛ كان أيضا شاعرا ومترجما وكاتب سيناريو ومخرجا. وقد عرفه جمهور السينما عبر «سموك» (1995) الذي كتب له السيناريو (مستلهما قصته القصيرة «حكاية أوجي ورين لعيد الميلاد») وفاز عنه بجائزة “إندبندنت سبيريت” لأفضل سيناريو أول، كما أخرج «لولو على الجسر» (1998). تظهر أعماله السينمائية الوجه نفسه لمشروعه الأدبي: أناس عاديون في أحياء بروكلين يتجاورون مع حدوتة بسيطة تتسع لمعنى كوني، وكأن “تفاصيل الحياة اليومية” هي بوابة الميتافيزيقا.

نال أوستر احتفاء دوليا واسعا، خصوصا في أوروبا؛ وتوج ذلك بحصوله على جائزة أمير أستورياس للآداب عام 2006، تقديرا “لتحويله الأدب عبر مزج أفضل التقاليد الأميركية والأوروبية وإدخال تقنيات السينما إلى السرد”. ليس هذا مجرد وسام شرفي— إنه إقرار بأن أوستر أعاد للكتابة الأميركية “ملمسها اليدوي” وأعاد وصلها بتراث قاري واسع دون أن تتنازل عن محليتها البركلينية. 

ومثل كثير من الكبار، ظل يعمل حتى اللحظة الأخيرة. في 2023 أصدر «باومغارتنر»، رواية حميمة عن أرمل سبعيني يعيد تركيب حياته بعد الفقد، ويكتب الحكمة من عين التجربة لا من برج عال؛ وقد قرأها كثيرون بوصفها وداعا رقيقا يضبط نبرة مشروعه كله: كتابة عن البقاء في عالم لا يكف عن سحب البساط من تحت أقدامنا. أنها رواية تفكر في الحزن بصوت هادئ، وتحتفظ مع ذلك بألعاب أوستر السردية وعنايته بالمصادفات الصغيرة التي تجري دم الحكاية.

في كل هذا، تبدو بروكلين ليست مجرد مكان في كتب أوستر؛ إنها مسقط رأس لغة وأسطورة صغيرة يصنعها أناس عاديون في مقاه ومتاجر سجائر وأرصفة. لذلك ظل النقاد يلقبونه بـ“بارد بروكلين” وصاحب الصوت “المخمر” بتجارب المكان؛ ولعل هذا ما يفسر شعبيته الاستثنائية في فرنسا وإسبانيا، حيث تلقى قراء تلك اللغات نزعته التأملية وصوته المتفرد بوصفه “كاتبا عالميا بلكنة محلية”. ومن بين الجوائز والأوسمة التي حازها أيضا وسام “قائد في الفنون والآداب” في فرنسا، ما يعمق صورة الكاتب الذي عبر الأطلسي ذهابا وإيابا دون أن يفقد ضحكة بروكلين الباهتة في خلفية السطر.

ولأن تجربته تقوم على “الممكن” أكثر من “المنجز”، فإن أوستر يذكرنا بأن الرواية ليست فقط “ماذا حدث؟” بل “كيف كان يمكن أن يحدث؟”؛ وأن سؤال الهوية ليس بطاقة تعريف بل شبكة احتمالات تصاغ عند تقاطع المصادفة والاختيار. من هنا يمكن قراءة مشروعه كله باعتباره دفاعا عن الكائن الهش الذي يتعثر في المدينة، ويصغي إلى وقع خطواته ليفهم نفسه. إن شخصياته، من كتاب فاشلين ومحققين هواة إلى عابرين يواجهون مراياهم، ليست بورتريهات واقعية بقدر ما هي أجهزة استشعار فلسفية: كل منها “آلة اختبار” لعلاقة الذات باللغة والعالم.

لكن عمق أوستر لا ينفصل عن متعة القراءة. ففي «كتاب الأوهام» مثلا يلعب على ثنائية السينما المفقودة والذاكرة، وفي «بروكلين فوليز» يصنع من حارة عادية خشبة مسرح لحيوات ثانية، وفي «ليفياثان» يضع قارئه في قلب لغز سياسي–وجودي دون أن يسطو على حرية تأويله. يتلاعب أوستر بالراوي غير الموثوق وبالوثائق المتخيلة وبالحكايات داخل الحكاية، لكنه يظل وفيا لشفافية جملة لا تتمنع على القارئ، وإلى حس إيقاعي يجعل فقرته أشبه بنفس محكي طويل تمسكه يد اعتادت الكتابة بالقلم على الورق. وقد أحب أن يكتب باليد فعلا، كما أحب أن يعيد جمله على مسودات لا نهائية حتى تبلغ درجة “الصدق الموسيقي”. 

لا تنفصل سيرة الرجل الشخصية عن عمله: من شراكاته الأدبية (وزواجه من الروائية والباحثة سيري هستفدت) إلى ترجماته المبكرة واحتكاكه العميق بتراث الشعر الفرنسي، مرورا بانشغاله بالأخلاقي والسياسي حين يتعلق الأمر بحرية الكاتب ومسؤوليته. ومع رحيله، أعلنت هستفدت لاحقا شروعها في كتابة مذكرات عنه بعنوان مبدئي «قصص أشباح»، في تلميح إلى أن علاقة الحي بالمغيب ستظل محورا لفهم إرثه.

بول أوستر: صانع المصادفة ومقيم المتاهة

إن إرث أوستر اليوم يتجلى في ثلاثة مستويات مترابطة:

1. جماليا: أعاد تعريف العلاقة بين البوليسي والفلسفي، بين اللعب الميتاسردي والشغف بالحياة اليومية؛ فتح الطريق أمام أجيال من الكتاب ليكتبوا “روايات أفكار” محمولة على دراما حميمة، لا على تنظير جاف.

2. سوسيولوجيا: قدم صورة مغايرة للمدينة الأميركية—لا بوصفها “مدينة الفرص” فقط، بل أيضا “مدينة الاختبار” حيث تتكون الهويات من صدام الصدف والقرارات.

3. مؤسسيا: مثل حضورا مؤثرا في الفضاء العمومي العالمي: ترجمات واسعة، جوائز مرموقة، وحوار مستمر بين الأدب والسينما، بما رسخ لفكرة الكاتب الذي يتخيل ويفكر ويخاطب جمهورا متعدد اللغات.

لذلك، حين نعود إلى كتبه اليوم، لا نفعل ذلك حنينا لزمن مضى، بل بحثا عن مفاتيح لزمن يتشكل. فالعالم الذي تتوالى فيه الصدف على نحو يثير الشك بالمعنى، يحتاج إلى كاتب يقول لنا: يمكن للقصة أن تهندس الفوضى دون أن تنكرها، وأن تصنع من هشاشتنا معنى قابلا للعيش. هذا هو درس بول أوستر الأخير—درس كتابة تقبل العالم كما هو، ثم تعيد ترتيبه في متاهة ترشد قارئها إلى نفسه.

أهم محطات السيرة والأعمال:

الميلاد: 1947، نيوآرك – نيوجرسي؛ الوفاة: 30 أبريل/نيسان 2024، بروكلين. (Financial Times)

أبرز الأعمال: «اختراع العزلة» (1982)، «ثلاثية نيويورك» (1985–1987)، «كتاب الأوهام» (2002)، «بروكلين فوليز» (2005)، «4 3 2 1» (2017)، «باومغارتنر» (2023). (The Guardian, Wikipédia)

الجوائز: جائزة أمير أستورياس للآداب (2006)، “إندبندنت سبيريت” لأفضل سيناريو أول عن «سموك» (1995). (fpa.es, Wikipédia)

لائحة المراجع:

1. Tonkin, B. (2024, May 2). Paul Auster obituary. The Guardian. https://www.theguardian.com/books/2024/may/02/paul-auster-obituary (The Guardian)

2. Creamer, E. (2024, May 1). Paul Auster, American author of the New York Trilogy, dies aged 77. The Guardian. https://www.theguardian.com/books/2024/may/01/paul-auster-dies-aged-77-death-american-author-new-york-trilogy (The Guardian)

3. Murphy, B. (2024, May 1). Paul Auster, author who explored New York and life’s riddles, dies at 77. The Washington Post. https://www.washingtonpost.com/obituaries/2024/05/01/paul-auster-novelist-writer-dies/ (The Washington Post)

4. The Booker Prizes. (2017, January 31). 4 3 2 1. https://thebookerprizes.com/the-booker-library/books/4-3-2-1 (The Booker Prizes)

5. Princess of Asturias Foundation. (2006). Paul Auster — Princess of Asturias Award for Literature. https://www.fpa.es/en/princess-of-asturias-awards/laureates/2006-paul-auster/ (fpa.es)

6. Grove Atlantic. (2023). Baumgartner. https://groveatlantic.com/book/baumgartner/ (Grove Atlantic)

7. IMDb. (n.d.). Smoke (1995) — Awards. Retrieved September 1, 2025, from https://www.imdb.com/title/tt0114478/awards/ (IMDb)

8. Penguin Random House. (n.d.). The New York Trilogy. Retrieved September 1, 2025, from https://www.penguinrandomhouse.com/books/298818/the-new-york-trilogy-by-paul-auster/ (PenguinRandomhouse.com)

9. Encyclopaedia Britannica. (n.d.). Paul Auster. Retrieved September 1, 2025, from https://www.britannica.com/biography/Paul-Auster (Encyclopedia Britannica)

تعليقات