📁 تدوينات جديدة

عدالة الذاكرة: من جماجم الساكالافا إلى برونزيات بنين

عدالة الذاكرة:  من جماجم الساكالافا إلى برونزيات بنين

حين يعود أثرٌ منفيٌّ إلى موطنه، لا تعود معه مادته فحسب؛ تعود سردية كاملة لطريقة قتلٍ أو نهبٍ أو إسكاتٍ قديم. لذلك تبدو قضايا الاسترداد اليوم أكثر من ملفات تراثية: إنّها اختبارٌ أخلاقيّ وقانونيّ لكيف نفهم الماضي ونُصلح أثره في الحاضر. ويكشف مساران متوازيان، استعادة جماجم الساكالافا إلى مدغشقر، ومسلسل ردّ برونزيات بنين إلى نيجيريا، عن البنية العميقة لهذه “عدالة الذاكرة”: بين طبّ الجراح الرمزية، وإعادة توزيع القوة المعرفية بين المتاحف والمجتمعات.

في الحالة الملغاشية، لا نتحدّث عن “قطعة متحفية” بل عن بقايا بشرية: جماجم نُسبت إلى شخصيات Sakalava قُتلت إبان الاحتلال الفرنسي. إعادة هذه الجماجم تحمل معنى طقسيًّا - دفنٌ واستئنافٌ لزمنٍ قُطع - ومعنى سياسيًّا يعترف بأنّ المتحف ليس مخزنًا محايدًا بل موقع قرار. جرى تسليم الرفات رسميًا بعد أن ظلت لعقود محفوظة في باريس، مع توكيد فرنسيّ بأنّ الخطوة تندرج في مسار مصالحة مع ماضي الاستعمار. هنا لا تكفي لغة “الإعارة” أو “النسخ الرقمية”: لا بدّ من عودة الأصل بوصفه حقًا للضحايا وذويهم، وشرطًا لإغلاق حلقة العنف الرمزي. (1)

هذا التحوّل الأخلاقي وجد سندًا قانونيًا في فرنسا نفسها. فقد ناقشت الحكومة مشروع قانون جديد يُنهي الإجراء المتعثر الذي كان يقتضي سنّ قانون خاص لكل حالة ردّ، ويفتح مسارًا سريعًا ومنظمًا لإخراج المقتنيات المنتزعة قسرًا من الملك العام إلى أصحابها. منذ تعهّد 2017 بإعادة جزء من الموروث الإفريقي، ظلّ التنفيذ بطيئًا؛ ويُفترض أن يقلّص التشريع المقترح فجوة الخطاب والتطبيق، مع إقرارٍ بأنّ الدولة، لا المتحف، هي من تُعرّف المسؤولية التاريخية. لكن النقاش لا يزال قائمًا حول شروط الإثبات وحدود “الهيئات الوسيطة” الجديدة التي قد تراقب العملية. (2)

على الضفة الأخرى، يتقدّم ملف برونزيات بنين بوصفه المثال الأكثر شهرة لتصحيح ميزان القوة المتحفية. فمنذ 2022 بدأت موجة ردود كبيرة (ألمانيا، مؤسسات أميركية وبريطانية)، وتواصلت هذا العام باتفاق هولندي أعاد أكثر من مئة قطعة إلى نيجيريا، في إقرارٍ بأنّ ما نهبته حملة 1897 البريطانية ليس “تراثًا عالميًا” معلّقًا، بل ملكية ثقافية لفضاء اجتماعي محدد. ومع أنّ مشهد الردّ اتّسع، ظلّت مؤسسات بريطانية كبرى متقيّدة بقوانين تمنع “التصرّف” في المقتنيات، ما أبقى جزءًا مهمًا من المجموعة في حالة تجميد قانونيّ. هنا تظهر فجوة تشريعية أوروبية: تفاوت بين دول تُعدّل قوانينها وأخرى تتمسّك بمنطق “الدومين العام” الذي يُقدّس الحيازة على حساب العدالة التاريخية. (3)

لكن الاسترداد لا ينتهي عند حدود الشحن الجويّ. داخل نيجيريا نفسها دار—ولا يزال—جدل حول لمن تعود القطع: للدولة ممثلةً في هيئة المتاحف والآثار، أم للمؤسسة الملكية في بنين سيتي بصفتها صاحبة الذاكرة الطقسية؟ هذا الجدل، على حساسيته، صحّيّ لأنه يحرّر النقاش من ثنائية “الغرب/الآخر” إلى سؤال الحَوْكمة المحلّية وكيفية التوفيق بين حقّ المجتمع الأوسع وحقّ السلطة التقليدية. في الأثناء، تتغيّر الأرضية المؤسسية ذاتها: مشاريع متاحف وبُنى حفظ متقدّمة في بنين سيتي (مختبرات حفظ، مخازن مُكيّفة، قاعات عرض حديثة) تُفنّد حجّة “العجز التقني” التي طالما استُخدمت لتبرير بقاء القطع في الشمال. هكذا يغدو الاسترداد منظومة: أثرٌ عائدٌ إلى بيئة قادرة على صيانته وتأويله وإشراك جمهوره. (4)

ما الدرس الذي تُقدّمه هاتان الحالتان معًا؟ أولًا، أنّ التأطير القانوني شرطٌ لازم لكنه غير كافٍ: قوانين الردّ يجب أن تُقترن ببروتوكولات محكومةٍ بمبادئ واضحة—أولوية الضحايا وذويهم في قضايا الرفات البشرية، والاعتراف بحقوق الجماعات المحلية في التفسير والطقس، وآليات شفافة لإثبات المنشأ ومسار الملكية (provenance). ثانيًا، أنّ الاسترداد عملية معرفية: يتطلب فهرسة رقمية، وفتح أرشيفات المتاحف، وشراكات بحثية عابرة للحدود، بحيث لا يعود الأصل وحيدًا؛ يعود ومعه سلسلة نسب توثّق سيرته في المنفى.

ثالثًا، أنّ المتحف المعاصر لا يخسر دوره حين يتخلّى؛ بل يعيد تعريفه. يمكن لمؤسسات الشمال أن تنتقل من “حيازة” القطع إلى رعاية معرفية عبر إعارات طويلة، ومعارض مشتركة، وبرامج تدريب أمناء حفظ من الجنوب، ومنح وصول مفتوح للبيانات والصور ثلاثية الأبعاد. في المقابل، تحتاج دول المنشأ إلى سياسات استدامة: ميزانيات حفظ وصيانة، تأمين، تدريب تقني، ومجالس إدارة تضمّ ممثلين للمجتمع المحلي، لا بيروقراطيين فقط. التجربة الهولندية في إنشاء آلية تقييم مستقلة لطلبات الردّ تصلح نموذجًا إجرائيًا قابلاً للتبنّي إقليميًا. (5)

رابعًا، أنّ اللغة مهمّة. ليست هذه “هبات” سخية ولا “بادرات حسن نية”، بل تصحيح مسارات ملكية. تسمية الأشياء بأسمائها، نهبٌ، قسرٌ، قَطْعٌ لِلْسِّياق، تمكّننا من كتابة نصّ جديد للعلاقات الثقافية، نصّ يتجاوز خطاب “الكونية” الانتقائي الذي عوّم الفاعلين وأخفى تاريخ العنف وراء جماليات العرض. وحين نتبنّى هذا الوضوح، تغدو العودة حدثًا تربويًا أيضًا: تُعيد تعريف المتحف لدى الجمهور كمؤسسة محاسبة لا معصومة.

وأخيرًا، تذكّرنا جماجم الساكالافا أنّ ثمّة فئة من المقتنيات لا يُجادل فيها أصلًا: الأجساد وآثارها. هنا يتقدّم الحق الطقسي والإنساني على أي اعتبار جمالي أو بحثيّ. وإذا كانت برونزيات بنين قد أعادت ترتيب العلاقة بين المتحف والدولة والمجتمع، فإنّ الرفات العائدة تُعيد ترتيب العلاقة بين الماضي والحيّ، بين اسمٍ ونسله، وبين موتٍ مؤجلٍ وعدالةٍ لا تزال ممكنة. لذلك، تُقاس نجاحات الاسترداد لا بعدد القطع العائدة فقط، بل بقدرتها على تضميد السردية: أن تعود الأشياء ومعها القدرة، محليًا وعالميًا، على أن نروي القصة كما حدثت حقًّا، لا كما لائمت واجهات العرض.

خلاصة: الاستردادُ ليس نهاية قصة؛ إنّه بداية حوكمةٍ ثقافية جديدة تجعل المتاحف ودول المنشأ والجماعات صاحبة الذاكرة أطرافًا متكافئة في إنتاج المعنى. بين الساكالافا وبنين، يتبلور معيارٌ يمكن تعميمه: قانونٌ واضح، بنيةٌ قادرة، ومجتمعٌ شريك، ليصبح العدل جزءًا من سياسة الثقافة لا هامشًا أخلاقيًا لها.

المراجع المعتمدة

- Reuters: “France returns three colonial-era human skulls to Madagascar.” 26 آب/أغسطس 2025. Reuters
- Al Jazeera: “France returns human skulls to Madagascar, 128 years after massacre.” 27 آب/أغسطس 2025. Al Jazeera
- The Art Newspaper: “French government adopts bill for restitution of colonial-era objects.” 30 تموز/يوليو 2025. theartnewspaper.com
- France 24 (EN): “French govt prepares new law to return colonial-era art.” 30 تموز/يوليو 2025. france24.com
- AP News: “Netherlands agrees to return more than 100 artifacts to Nigeria looted during colonial times.” 19 شباط/فبراير 2025. AP News
- The Guardian: “Cutting-edge labs… Nigeria to open art museum for 21st century (MOWAA).” 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. The Guardian
- New Lines Magazine: “Nigeria Debates the Fate of Returning Benin Bronzes.” 2 نيسان/أبريل 2024. New Lines Magazine
- British Museum (official): “Benin Bronzes — contested objects.” (دون تاريخ محدّد للصفحة). britishmuseum.org

تعليقات