فاطمة موسى وجى | المغرب
مقدمة
يهتم علم النفس الاجتماعي بالدراسة العلمية للكائن
الاجتماعي، ولأن الإنسان كائن اجتماعي فهذا التخصص يسعى إلى فهم كينونة الفرد وآلياتها
في إطار ما هو اجتماعي.
ينشأ كل إنسان من خلال التفاعل بين الوراثة والبيئة،
بمعنى آخر، جوهر وطبيعة الشخص (أي ما يأتي به إلى هذا العالم) وما يجده داخل هذا العالم.
التفاعل بين الوراثة والبيئة حاضر باستمرار في حياة الفرد، بيد أن حضور البيئة والوراثة
هو حضور نسبي ولا توجد مقاييس محددة في إطار هذه العلاقة، لكن أهميتها النسبية تختلف
من شخص إلى آخر، بحيث يوجد لدى الشخص طاقات خاصة موروثة ويتوقف نموه على مدى تحققها
وتطورها.
الوراثة والبيئة: أي تفاعل؟
نأتي إلى العالم ونحن نحمل مجموعة من القدرات التي
يجب أن تترجم إلى كفاءات، وكل كفاءة يمكن بلوغها بواسطة التعلم. كما أن هناك قدرات
أولية قد لا تظهر إن لم تجد الوسط المناسب.
عند ميلاد الشخص، يتفاعل تفاعلا كليا مع محيطه على
أساس تكوينه الفطري ومزاجه الذي يبقى طبقة سفلية، تعمل كمؤثر لكل استجابة للوقائع المتتالية.
الفرد يحتاج للتعبير عن ذاته في إطار استجابته للمثيرات الخارجية، وهذا يحدث تبعا للأحداث.
فكلما كبر الشخص زادت قدرته على التفاعل واستطاع أن يندمج أكثر في العالم الذي ينتمي
إليه، فيكتسب قدرات، ويتخلى عن أخرى كي يتطور، وكل استجابة هي نتيجة مزاج فطري بعد
تعديله بالخبرة، وهذا ما يقصد بالتعلم. فالكفايات المرجوة يكتسبها عبر مسارات معينة،
وبالتالي لم يعد الأمر مقتصرا على مزاج فطري خالص أصلي، ولم نعد نتحدث عن شخص ذكي وآخر
غبي، لكن عن فرد له قدرات منذ ولادته ويحتاج فقط لوسط يستجلي هذه القدرات عوض أن يدفنها،
لذلك لابد من تعليم ملائم وليس تعليم يهدر الطاقة فقط.
تبلور الطاقات الكامنة الموروثة رهين بالبيئة التي
يتطور فيها الفرد منذ لحظاته الأولى. هذه الطاقات والقدرات لا يمكن أن تظهر إلا في
بيئة مفجرة لذلك. كمثال على ذلك، قد لا يجد الطفل العادي وسطا لإظهار مواهبه أو قدراته،
فهذه الأخيرة قد تضيع ولا تظهر مطلقا. لكن في ثقافات أخرى، قد نجد أشخاصا يعانون من
مشاكل في بنيتهم الذهنية ومع ذلك يؤخذ بأيديهم ويتمكنون من استثمار طاقاتهم وإن كانت
محدودة، بالتالي تظهر هذه الطاقات في شكل مهارات، خبرات وكفاءات، حيث يستطيع الشخص
في وضعية إعاقة تأسيس حياته الخاصة بفضل التعلمات وتطوير كفاءاته. لذلك، وتفاديا لهدر
الطاقات الكامنة، لابد من بيئة تزهر فيها هذه الطاقات.
في ظل الجماعة قد تختفي الهوية الشخصية ويصبح الحديث
حول "هوية اجتماعية". في علم النفس الاجتماعي هناك دائما حاجة لدعم الهوية
الشخصية لأن لها بعدا سيكولوجيا مهما بل يمكن القول أن مفهوم الهوية مفهوم مؤسس للشخصية
الإنسانية، والوعي بالهوية الشخصية يدخل في "السواء النفسي"، كما أن الوعي
الإيجابي بالهوية الشخصية يؤسس دوما للتوازن النفسي. والتفاعل بين الفرد ومحيطه ما
هو إلا مصدر للفعل ولرد الفعل.
على ماذا تأسست نظرية إريكسون؟
اعتمد إريكسون طرق التحليل النفسي باعتباره إضافة
نوعية تفسر له الأشياء التي لم يكن لينتبه لها لو لم يلج عالم التحليل النفسي. فاشتغل
على الإشارات الواردة من اللاشعور والشعور، والتي تظهر من خلال الاتصالات الكلامية
وتصلنا عبر سلوكيات معينة، عبر ملامح معينة، إشارات معينة، ولدى الأطفال عبر اللعب
والمحاكاة.
اختيار إريكسون لم يكن عشوائيا، بل هو اختيار من
أجل فهم الأشياء الصادرة عن الشعور واللاشعور، فليس كل شيء يقال وليس كل شيء يظهر للعيان،
وهناك أشياء تفرض نفسها كإشارات واردة من اللاشعور وتستدعي طرقا للفهم والتفسير، والطريقة
الأنجح لفهمها هي التحليل النفسي.
إريكسون أقر أن ليس هناك بحث علمي يمكن القيام به
دون وجود نظرية موجهة ومرشدة، لذلك اعتنق التحليل النفسي. وبالنسبة له، كل مظاهر النمو
يجب أن تكون مفهومة داخل سياق معين من داخل نظرية معينة. اختيار النظرية هو اختيار
شخصي لكن وجودها أساسي، لذلك اختار إريكسون التحليل النفسي لأنه كان إكلينيكيا بامتياز،
مع أنه قام بملاحظة الأفراد في وسطهم الطبيعي، ولم يكتفي بالجانب الإكلينيكي بل امتد
عمله لدراسة خلفياتهم الثقافية على اعتبار أنه لا يمكن فهم شخص دون فهم مرجعيته الثقافية،
عاداته، أساليبه ومعتقداته، فالموروث الثقافي والديني أساسيان لفهم الشخصية، ولا يمكن
دراسة شخص دون أن نطل على هذه الجوانب لكي نفهم تفاصيله النفسية. لذا فالجانب الإكلينيكي
لا يكتمل إلا بهذا الجانب الديناميكي.
دور البعد الاجتماعي في تأسيس الهوية
النفسية
تشكل الهوية الشخصية جزءا أساسيا في بناء التوازن
النفسي، وهذا ما يتفق حوله كل المهتمين بالسيكولوجيا. حاول إريكسون أن يعزز وجوده النفسي
بالتفكير في هويته الشخصية أولا، باعتباره كان يحظى بتمثلين مختلفين عن الأب (الأب
البيولوجي والأب بالتبني)، فبعد هجرته إلى أمريكا كان له ولادة جديدة، حينها أسمى نفسه
إريك إريكسون لأنه أحس بالنضج وبأن هويته الشخصية اكتملت (اعتبر نفسه ابن نفسه).
يقول إريكسون: "عندما حددت مجموعة من الموازنات
التي يبدو أن الصحة النفسية الاجتماعية لشخصية ما تتوقف عليها، وجدت نفسي أشير إلى
نظام تقويم عام يقوم على طبيعة النضج الإنساني واحتياجات الأنا الآخذة في النمو، وبعض
العناصر العامة في نظام تدريب الطفل". الحاجة للتفكير في النمو الإنساني هو ما
أعطى إريكسون القوة للحديث عن هذا النضج الذي يتم في إطار احتياجات الأنا التي تتجه
نحو التحقق، ويمكن القول إننا لا ننمو بقوة الطبيعة فقط، لكن النمو يكون في شدّ وأخذ،
ثم إن الظواهر النفسية قد مرت بتاريخ تطوري شبيه بالتكوينات البيولوجية، ففي التاريخ
البيولوجي للإنسان يتواجد النمو الفيزيولوجي والموهبة النفسية في نفس الآن، وكلاهما
يتطوران في اتجاه واحد. وتأكيدا لذلك يقول إريكسون: "إن دورة التطور العقلي لكل
فرد هي تكرار للتاريخ المرتبط بالجنس الإنساني، فكل مرحلة في النمو تجد مقابلا لها
ضمن هذا التطور، بل إن نمو الشخصية ينبع من نفس المبادئ البيولوجية".
يفترض إريكسون أن التحول في الجسم يليه تحول على
مستوى الجهاز النفسي، فإذا كان هناك مرض جسمي، سيؤدي لا محالة إلى اضطراب نفسي.
بالإضافة إلى ذلك، نجد ثقافات مساعدة على النمو،
وأخرى تذهب بالطفل إلى التعاسة واللاتوازن النفسي، فالثقافة تساعد الفرد على البقاء،
ويساعدها هو على الاستمرار كلما احتفظ بها داخله، إذا ساعدته على التميز، الابتكار
والإبداع، فهو يساعدها على الازدهار، ما يدل على وجود تفاعل دائم بين ما هو داخلي وما
هو خارجي، بين الذات والمحيط، بين الشخصي والثقافي.
خاتمة
يحتاج كل فرد تفسيرا واضحا للحياة على ضوء نظرية
أو عقيدة معقولة، لذلك فالتجارب الأولى للطفل تربطه إلى الأبد بوسطه الأصلي، هذا اليقين
الثقافي المبكر ينتقل في الغالب لا شعوريا ويصاحب الفرد في جميع مراحله العمرية. لقد
أكد إريكسون أننا نواجه انفصالا بين الثقافة الموروثة وواجبات المجتمع الحالي، هذا
التأثير ينتقل بدوره إلى الطفل، بالنظر إلى وعي والديه وانشغالهما بالثقافة المعاصرة
والمجتمع الجديد، وتبقى القاعدة أن الطفل يحتاج المجتمع مثلما يحتاج المجتمع الطفل.