📁 تدوينات جديدة

طه حسين: «عميد الأدب العربي» الذي صاغ حداثة لغتها الوضوح ورسالتها التعليم

طه حسين: «عميد الأدب العربي» الذي صاغ حداثة لغتها الوضوح ورسالتها التعليم

كان طه حسين نموذجا نادرا لكاتب جعل من السيرة الثقافية مشروع دولة، ومن البيان العربي أداة تحديث ترفض الانغلاق دون أن تقطع مع التراث. خرج الفتى الكفيف من قرية صعيدية إلى الأزهر فجامعة القاهرة، ثم إلى السوربون، فعاد أستاذا ومفكرا و«عميدا للأدب العربي» في المخيال العربي العام؛ لقب لم يكن زينة بل خلاصة مكانة علمية وجماهيرية صنعها بالمعرفة والجرأة واللغة الشفافة الدقيقة. في كتاباته النقدية والقصصية والمقالية تبدو الجملة عنده «آلة معرفة» لا محض تزيين، مستندة إلى منهج عقلي صارم، وإلى إيمان عميق بأن النهضة تبدأ من المدرسة والجامعة قبل أن تصعد إلى البرلمان.

من يقرأ «الأيام» لا يقرأ سيرة فرد بقدر ما يقرأ سيرة ولادة القارئ العربي الحديث: كيف يتحول الألم الشخصي إلى طاقة تعلم، وكيف تصاغ الذات عبر الاستماع والذاكرة والحجة أكثر من البصر. لهذا استقبلت «الأيام» في الشرق والغرب بوصفها علامة طليعية في كتابة الذات العربية الحديثة، ومرجعا لتطور السرد العربي نحو مزيد من الاقتصاد والوضوح والمفارقة. ومع «مستقبل الثقافة في مصر» تتقدم أطروحة أخرى: مصر جزء من فضاء متوسطي، تغذيه روافد عربية وإسلامية وأوروبية، والتعليم هو الجسر الذي يعقل هذه الروافد ويجعلها سياسة عمومية.

ولئن ارتبط اسمه بلقب «العميد»، فقد ارتبط أيضا بمبدأ لا يزال يستشهد به في أدبيات السياسات التعليمية: «التعليم كالماء والهواء». ليست العبارة شعارا إنشائيا؛ فقد طبقها حين تولى وزارة المعارف (التربية) في حكومة الوفد بين 1950 و1952، موسعا مجانية التعليم وإتاحة الدولة للمعرفة في الأقاليم، في سياق رؤية تعتبر العدالة المعرفية شرطا للعدالة الاجتماعية. هكذا امتد أثره من قاعة المحاضرة إلى قاعة القرار، وظل صوته العام داعما للغة الفصحى والانفتاح على اللغات والثقافات، مع دفاع راسخ عن المدرسة والجامعة مؤسستين لبناء المواطن.

أما جرأته المنهجية فتجلت مبكرا في «في الشعر الجاهلي»؛ كتاب أحدث عصفا نقديا لأنه نقل درس الأدب من التسليم إلى المساءلة، ومن البلاغة إلى التحقيق التاريخي واللساني. لم تكن المساجلات التي أثارها نهاية مشروعه بل بداياته: فقد أعقبها بإسهامات تعليمية وثقافية رسخت مكانته خارج دوائر الجدل اللحظي؛ وبقي الدرس الأهم أن الأدب حقل بحث يتجدد بما نملك له من أدوات علم ومعايير.

تكمل السيرة الأكاديمية صورة «الكاتب المؤسس»: أطروحة في السوربون عن ابن خلدون تدخل التفكير السوسيولوجي إلى المدار العربي الحديث، وتكوين جامعي بين القاهرة وفرنسا يزود مشروعه بميزتين نادرتين: صرامة المناهج الحديثة، وحس لغوي عربي جلاه تمرين الكتابة اليومية. لذلك جاءت لغته أمينة لروح العربية ومنفتحة على مفردات العصر، مع انحياز ثابت إلى الوضوح بوصفه فضيلة أسلوبية وأخلاقية.

في حصيلته، يجتمع ثلاثة وجوه تفسر أثره المتجاوز للأجيال: المنظر الأدبي الذي أعاد ترتيب علاقة النص بمرجعياته، والمربي والمشرع الذي حول مقولة «الماء والهواء» إلى سياسة تعليمية، والمثقف العمومي الذي جعل من العمود الصحافي والكتاب الجامعي ومنبر الوزارة مسالك متكاملة لنهضة تقاس بقدرة المجتمع على القراءة والتفكير. لذا بقي طه حسين، بعد نصف قرن على رحيله، أحد الثوابت النادرة في خطابنا الثقافي: مرجعا يستلهم منهجه قبل أن تستعاد مقولاته، ورمزا لحداثة عربية لغتها البيان ومبدؤها الحرية المسؤولة.

المراجع

       Britannica. (n.d.). Taha Husayn. Retrieved September 1, 2025, from https://www.britannica.com/biography/Taha-Husayn (Encyclopedia Britannica)

       Britannica. (n.d.). The Days. Retrieved September 1, 2025, from https://www.britannica.com/topic/The-Days (Encyclopedia Britannica)

       Britannica. (n.d.). The Future of Culture in Egypt. Retrieved September 1, 2025, from https://www.britannica.com/topic/The-Future-of-Culture-in-Egypt (Encyclopedia Britannica)

       Britannica. (n.d.). Fi al-shiâr al-jahili (On Pre-Islamic Poetry). Retrieved September 1, 2025, from https://www.britannica.com/topic/Fi-al-shir-al-Jahili (Encyclopedia Britannica)

       Mahmoudi, A. (2014). Taha Husain’s education: From Al-Azhar to the Sorbonne. Routledge. https://doi.org/10.4324/9781315027272 (Taylor & Francis)

       Abbott, A. (2014). La philosophie sociale d’Ibn-Khaldoun — Taha Husayn’s 1918 Sorbonne dissertation (context & analysis). University of Chicago. https://home.uchicago.edu/aabbott/barbpapers/barbhusa.pdf (home.uchicago.edu)

       World History Commons. (n.d.). Taha Hussein, Minister of Education — Motto (“Education is like water and air”). Retrieved September 1, 2025, from https://worldhistorycommons.org/taha-hussein-minister-education (worldhistorycommons.org)

       National Library of Australia. (1954). The future of culture in Egypt (S. Glazer, Trans.). American Council of Learned Societies. https://nla.gov.au/nla.cat-vn2498714 (nla.gov.au)

       Ahmed, H. E. R. (2017). Taha Hussein and Egypt’s road to independence (Master’s thesis, McGill University). https://escholarship.mcgill.ca/downloads/sj139440r.pdf (escholarship.mcgill.ca)


تعليقات