📁 تدوينات جديدة

زر أخــــــضر | قصة: دلال القرافلي

زر أخــــــضر | دلال القرافلي

دلال القرافلي | المغرب

يرن الجرس الصغير كلما لامس أحدهم مقبض الباب. أراقب، من خلف زجاج لا يرى مني سوى اليدين، كيف تدخل الوجوه المتعبة وتخرج وقد انفرجت قليلا. على مكتبي شاشة تعد أنفاس الأرقام، وصندوق للنقود المعدنية يثقل ويخف كصدر يتقلب. الطابعة تهمس بورق دافئ، والأختام تتناوب على الأوراق كأنها تضع ختم الحياة على حاجات الناس. هنا، لا نبيع شيئا يلمع؛ نمرر فقط الوقت من قلب الانتظار إلى كف الخدمة، ونعلم الصبر كيف يقف في صف مستقيم.

في ظهيرة ممطرة، انفتحت الباب على فتاة نحيلة تحمل مظلة مكسورة وورقة كهرباء مطوية بعناية. كانت في نحو الثانية عشرة، بوجه جاد يسبق عمره، وقالت بخجل وهي تقف على أطراف أصابعها لتقترب من فتحة الزجاج: «اسمي صفية». وضعت الورقة أمامي وأضافت بصوت يكاد لا يسمع: «انقطع التيار في البيت، وأمي مريضة… هل يمكن أن نسدد جزءا اليوم؟».

أمعنت النظر في الشاشة. النظام لا يعرف تجزئة العجز، ولا يبتسم للحالات الاستثنائية. هو يحب الأزرار الواضحة: «نعم» أو «لا». قلت لها بهدوء وأنا أختار كلماتي: «المعمول به ألا تقبل الدفعة إلا كاملة». شدت على المقبض المكسور لمظلتها، وهزت رأسها كمن يحاول ابتلاع دمعة. كادت تنسحب.

من خلفها، قال رجل يضع قبعة مبتلة، بدا لي سائق أجرة، بنبرة حازمة رقيقة: «ادفعوا للبنت، عسى الله أن يرفع عنهم هذا الظلام». استدارت امرأة تحمل طفلا نائما على كتفها وقالت: «لو أخرج كل واحد منا درهمين، لما عجزنا». لم أحتج إلى أكثر. فتحت العلبة المعدنية الصغيرة التي نضع فيها الفتات الزائد لتصحيح الفواتير المتعثرة، ومررتها فوق الطاولة، وقدمتها ببطء عبر فتحة الزجاج.

ما تلا ذلك كان قصيرا في الزمن طويلا في المعنى: أصابع خشنة وأخرى مرتجفة تضع قطعا معدنية وأوراقا صغيرة، وهمهمات تبرر العطاء بعبارات مثل: «على قدر الاستطاعة»، و«جعله الله في ميزان الخير». لم يحتج أحد على الصف المعطل ولا على الدقائق التي تسربت من يومه. حين اكتمل المبلغ، أحصيته مرة ثانية، ثم أدخلت الأرقام على الشاشة. ظهر الزر الأخضر ينتظر إيماءة صغيرة؛ ضغطت. خرج الإيصال من الطابعة كأنه نفس دافئ، فناولته لصفية.

رفعت الفتاة الورقة بكلتا يديها، وقالت وهي تنظر إلى الناس خلفها: «جزاكم الله خيرا». ثم التفتت إلي: «أمي ستدعو لكم». خرجت مسرعة، وبقي أثر حذائها المبلل على البلاط مثل توقيع صغير على ظهر يوم عاد. عاد الطابور يتحرك، وعاد الضجيج إلى إيقاعه القديم، لكن في داخلي تحرك شيء آخر: ذلك الخيط الرقيق الذي يصل بين زر أخضر وغرفة ستضاء الليلة.

بعد أسابيع، أطلت صفية من الباب ذاته، لكن بلا ورقة هذه المرة. وضعت طبقا صغيرا من «خبيزات» منزلية على الطاولة من خلال الفتحة وقالت بابتسامة جدية: «هذا قليل في حقكم». كان الأذان يتسلل من نافذة بعيدة، وكانت رائحة المطر الأولى تعود إلى الشارع. لم أكن قد قررت بعد أن أترك هذا المكان، غير أنني أدركت حينها أن ما سأحمله معي إن فعلت لن يكون رواتب ولا كشوفات، بل قصصا خفيفة في اليد، ثقيلة في المعنى.

في المساء، حين خف المطر وصار الشارع يلمع كصفحة جديدة، مررت بجانب دكان عطار تفوح منه رائحة النعناع والشيح. فكرت أن حياتنا، مثل الشاي المغربي، تحتاج نارا هادئة وصبرا على الغليان، ثم حبة سكر لا يراها أحد. هنا تعلمت أن النور لا يأتي دائما من المصابيح، وأن «نعم» و«لا» يمكن أن يعاد كتابتهما بأصابع الناس، حين يقررون أن يكونوا الجسر بدلا من انتظار بنائه. هكذا صرت أكتب ما أراه: لا بما تمليه الشاشات، بل بما تنطق به القلوب عندما يجتمع المطر والخبز والدعاء في كف واحدة.

تعليقات