أصداء
الفكر:
مدخل
تهيمن حاليا سرديات التقنية الغربية على تصورات المستقبل،
وتغرقنا نماذج الخيال العلمي في عوالم الروبوتات والعقول المبرمجة والمجرات النائية،
إلا أن هناك حركة ثقافية مدهشة ومقلقة في آن تطل علينا: حركات Indigenous Futurisms، أو كما يمكن أن نترجمها إبداعيا بـ"المستقبليات الأصيلة".
ليست هذه الحركة مجرد توجه فني أو موجة أدبية جديدة،
بل إعادة تشييد معرفي كامل للزمن والمكان، من زاوية الشعوب الأصلية (Indigenous Peoples) في أمريكا الشمالية، وأستراليا، ونيوزيلندا، وأمريكا الجنوبية، وحتى
بعض المناطق الإفريقية.
ما الذي يدفع أبناء ثقافات طمست بالأمس إلى اقتراح
سرديات عن الغد؟
وكيف يمكن لـ"الذاكرة" أن تكون نقطة انطلاق
نحو "المستقبل"؟
من الخيال العلمي إلى "الخيال التحرري"
تقول غريس ديلارد، إحدى الباحثات الرئيسيات في هذا
المجال، إن "الخيال المستقبلي للسكان الأصليين ليس هروبا من الحاضر، بل اقتحام
للمستقبل بأسلحة الماضي."
في هذا التصور، لم يعد الخيال العلمي ملكا لحضارة
التقدم الصناعي الأبيض، بل صار أداة لتفكيك سرديات الاستعمار، وإعادة بناء الزمن الثقافي.
في أدب Indigenous Futurisms، نجد أبطالا
من قبائل "الناڤاجو" يقاتلون روبوتات استعمارية، ونساء من شعوب "الماوري"
يعبرن الزمن بشفرات نسجت من حكايات الجدات، وفنانين يعيدون تشكيل الخرائط الكونية على
نمط الرسوم الصخرية.
بين الهوية والزمن: إعادة كتابة ما يفترض أنه انتهى
اللافت في هذه الحركات أن الزمن لا يفهم بوصفه خطا
مستقيما، بل كدوائر متداخلة:
• الماضي
لا ينسى،
• الحاضر
ليس حياديا،
• والمستقبل
ليس أرضا بلا ذاكرة.
هنا، تصبح الأسطورة والمعرفة الشفهية، والحكمة الزراعية،
وأشكال العيش الجماعي، جزءا من أدوات صناعة الغد.
إنها مقاومة ناعمة، لا تتوسل الصراخ، بل تقاوم بالقصة،
بالصورة، باللباس، وبأغنية تغنى للوليد في عام 2080 لكنها مأخوذة من طقس دفن عمره
2000 سنة.
ثقافة مضادة أم بديل معرفي؟
قد يراها البعض "ثقافة مضادة" لـ Silicon Valley ونيوليبرالية الابتكار، لكن Indigenous Futurisms لا تسعى فقط للرد، بل لاقتراح بديل معرفي جذري.
البديل لا يرفض التكنولوجيا، لكنه يشكك في مركزيتها،
ويخضعها للسؤال الأخلاقي والروحي.
في رواية The Marrow Thieves للكاتبة شيريل دينين، نكتشف مستقبلا تمنع فيه الشعوب الأصلية من الحلم،
لأن أحلامهم تستخدم لاستخراج الطاقات العقلية. الحلم هنا استعارة، لكنه أيضا وثيقة:
ما لا يسمح لك بأن تحلم به، هو ما لا يسمح لك أن تكتبه، أن تتخيله، أن ترويه.
تجربة مغاربية: ما الذي نستفيده من هذه الحركة؟
لا يمكننا من منظور مغاربي أن نقرأ هذه الحركات دون
أن نربطها بثنائية الأمازيغية والعربية، وذاكرة الاستعمار، والخطاب الثقافي الرسمي.
في المغرب، ثمة "أصالة" يحتفى بها في المهرجانات،
لكنها معزولة عن المستقبل. وكأن الماضي موجود فقط ليزخرف الحاضر، لا ليغذي المستقبل.
أما في Indigenous Futurisms، فالأصالة ليست
احتفالا، بل إرثا حيا يعمل كصندوق أدوات لبناء الغد.
من هنا، يمكن لنا أن نتعلم كيف نحول التراث الشفهي،
والحكايات الشعبية، والحرف اليدوية، وحتى الطقوس الزراعية، إلى رموز مستقبلية.
لا يعني هذا أن ننتج روايات أمازيغية عن روبوتات
تتكلم وتكتب التيفيناغ (رغم أن ذلك سيكون ممتعا!)، بل أن نفكر كيف يمكن أن تنبع سردياتنا
عن المستقبل من سياقاتنا القيمية، والبيئية، والاجتماعية.
فن بصري، لا كتاب فقط
الخيال المستقبلي للسكان الأصليين ليس أدبا فقط،
بل فن بصري وتكنولوجي أيضا.
في لوحات الفنان داين زويجارد من كندا، نرى أرواحا
تقفز بين النجوم على خيوط النسيج التقليدي، فيما تنبعث المدن من طين يحمل وشم الجدات.
وفي المهرجانات الإلكترونية للسكان الأصليين، تقدم
عروض واقع افتراضي حيث تروى الحكايات داخل كهوف رقمية، يتنقل فيها الزائر بحواسه لا
بعينيه فقط.
الذاكرة كبرنامج مستقبلي
ما تفعله حركات Indigenous Futurisms في جوهرها هو "تحديث الذاكرة" — ليس محوها، بل تحميلها على أنظمة
جديدة.
فكما يتم تحديث تطبيقات الهواتف الذكية، تحدث هنا
الذاكرة الثقافية لتناسب نظام تشغيل جديد: عالم ما بعد الاستعمار، ما بعد النيوليبرالية،
وربما... ما بعد الحداثة ذاتها.
لا مستقبل لمن لا ماض له
ليس في هذه المقولة رجعية، بل مفارقة تاريخية محررة.
الذين لا يملكون ماضيا خاصا، سيضطرون دائما إلى استعارة
مستقبل الآخرين.
Indigenous Futurisms تنبهنا أن ما ظنناه جامدا في
متاحف الإثنوغرافيا، قد يكون بذرة لسرد جديد، لأدب خيال علمي، لفن رقمي، أو حتى لفلسفة
تغير طريقة نظرنا للزمن والكينونة والعالم.
فهل نحن في المغرب — وفي باقي الدول العربية — مستعدون
لنكتب مستقبلنا من جذورنا؟
أم سنظل نقتبس الغد من كتالوجات الآخرين؟
مراجع للاطلاع:
• Dillon, G.
(Ed.). (2012). Walking the clouds: An anthology of Indigenous
science fiction. University of Arizona Press.
• Dimaline, C. (2017). The Marrow Thieves. Dancing Cat
Books.
• Wikipedia contributors. (2025, August 3). Indigenous Futurisms. In Wikipedia, The Free
Encyclopedia. Retrieved from https://en.wikipedia.org/wiki/Indigenous_futurisms
• The Guardian, Wired, & Financial Times. (2025,
Summer). Selected cultural essays and features on Indigenous Futurisms and speculative literature. The Guardian, Wired Magazine,
Financial Times. (Articles retrieved August 3, 2025)