1. المجلات الإلكترونية: حين يتحول النشر إلى مرآة للفراغ
معز ماني |
تونس
بداية واعدة... ونهاية مفتوحة على الفراغ
في البدء، بدا الأمر واعدًا: فضاءات إلكترونية جديدة،
حرية نشر غير مسبوقة، وسهولة الوصول إلى جمهور عربي واسع.
كانت المجلات الإلكترونية العربية، على اختلاف مشاربها،
بمثابة الحلم الجميل الذي جاء ليكسر احتكار الورق، ويفتح نوافذ للنصوص المهمشة، والأقلام
المنسية.
لكن الحلم، كعادة الأحلام في أرضنا، لم يكتمل.
ما نشهده اليوم من طفرة في عدد المجلات الإلكترونية
العربية، لا يقابله تطور نوعي في المضمون، ولا يشير إلى نهضة فكرية أو أدبية مرتقبة،
بل يكشف أزمة أعمق:
نحن نفرط في التوزيع، لأننا عاجزون عن القراءة.
من يقرأ أصلا؟
ما جدوى أن تنتشر المجلات كالفطر، في بيئة تتراجع
فيها معدلات القراءة يومًا بعد يوم؟
كيف نقنع أنفسنا أن ثورة النشر الإلكتروني تمثل إضافة،
ونحن نعلم يقينًا أن القارئ العربي، في غالبه، عزف عن القراءة الجادة، واكتفى بالمرئي،
والموجز، والانفعالي؟
النتيجة الطبيعية لهذا الواقع هي أن كثيرًا من هذه
المجلات باتت تخاطب جمهورًا لا يقرأ أصلًا، أو يقرأ بنصف وعي، أو يكتفي بالعناوين.
جمهورٌ يرضى بما يلمع لا بما ينفع.
التكريم بدل التقييم
ما يزيد المشهد هشاشة، أن غالبية المجلات الإلكترونية
لا تكتفي بنشر ما يُكتب، بل تُمعن في توزيع الألقاب والتكريمات بلا معايير واضحة:
• نصوص ساذجة
تُمنح "وسام الإبداع".
• أقلام مبتدئة
تُلقب بـ"شعراء الأمة".
• مشاركات إنشائية
تُقدَّم كـ"فتح نقدي جديد".
هذا التهافت على تكريم الرداءة لا يُنتج حركة أدبية،
بل يُكرّس عشوائية ثقافية لا تقلّ خطرًا عن الجهل.
فالتكريم حين يُعطى مجاملة أو مجازًا، يفقد معناه،
ويصبح هدية مجاملاتية لا قيمة فنية لها.
حين تُصنع الذائقة على يد الرداءة
حين تتكرر نصوص ضعيفة، ويتكرر الاحتفاء بها، تتشكل
ذائقة منحرفة، تظن أن هذا هو الأدب، وأن هذه هي القصة أو القصيدة أو المقال.
ثم تنشأ أجيال لا تعرف الفرق بين جودة أصيلة وجودة
مدعاة.
نحن بصدد مجتمعات تحتفل بسطحها، وتُقصي أعماقها.
وفي عالم المجلات الإلكترونية، للأسف، غالبًا ما
يكون من يكتب عن العيون أهم ممن يكتب جيدًا عن قضايا الأمة.
الحل ليس بإغلاق المجلات... بل بفتح العيون
لا ندعو هنا إلى إيقاف هذه المجلات، بل إلى إعادة
النظر فيها:
• أن تُدار برؤى
تحريرية حقيقية، لا بـ"لجان أصدقاء".
• أن تكون لها
لجان تقييم أدبي محترفة، لا غرف مجاملة.
• أن تُقرّ بأن
النشر ليس وسيلة للمحاباة، بل مسؤولية ثقافية.
المجلة التي لا تُربي القارئ... تُخدّره.
هل نكرم الأدب... أم نجمل الغياب؟
إن المجلات الإلكترونية العربية، في حالتها السائدة،
ليست احتفاءً بالأدب، بل هروبًا جماعيًا من مسؤوليته.
ولن تنفعنا ألف "عضوية شرفية"، إن كنا
نكرم النصوص الخطأ، ونمر مرور الكرام على ما يستحق أن يُخلد.
الكتابة ليست مهرجانًا، والنشر ليس سيركًا.
إذا لم تشتد معاييرنا في النشر والتكريم، فإن كل
مجد إلكتروني مصيره النسيان.
فليس كل من يملك موقعًا، يملك مشروعًا... وليس كل
من يكتب، جدير بأن يُقرأ.
2. المجلات الإلكترونية: بين حلم النشر الجماهيري وشبح الرداءة المقننة
أصداء الفكر
منذ ظهورها قبل أكثر من عقدين، قُدّمت المجلات الإلكترونية
بوصفها خطوة ثورية في عالم النشر. خفيفة الحمل، واسعة الانتشار، قليلة التكلفة، وسريعة
الوصول. كانت التكنولوجيا تمنح الأدب والإبداع والصحافة منفذًا جديدًا بلا حواجز ورقية
أو مؤسساتية. بدا الأمر أشبه بتحقيق حلم طال انتظاره بالنسبة للكتّاب والمبدعين، خصوصًا
أولئك الذين طالما عانوا من عتبة النشر التقليدي وتكاليفه.
لقد فتحت هذه المجلات الباب أمام آلاف الأقلام الشابة
التي كانت تبحث عن فرصة لإسماع صوتها، كما ساهمت في دمقرطة المحتوى الثقافي والمعرفي،
مانحةً الجميع حق التعبير.
لكن، شيئًا فشيئًا، بدأ الوجه الآخر للمشهد يتكشف بوضوح. مجلات تفتقر إلى الهوية، منصات
دون رؤية تحريرية واضحة، ونصوص تُنشر كما تُكتب، دون مراجعة أو مساءلة. وبدل أن تكون
المجلات الإلكترونية رافعة للتجديد والانفتاح، تحولت في كثير من الحالات إلى مرايا
مشوشة، تعكس اختلالات المشهد الثقافي أكثر مما تقترح بدائل.
النشر السهل لا يصنع محتوى جادا
الميزة التي رفعت المجلات الإلكترونية إلى السطح
هي ذاتها التي تُغرق كثيرًا منها في السطحية: سهولة النشر. فبضغطة زر، يمكن لأي فرد
أن يُطلق "منصة" رقمية، دون الحاجة إلى خلفية تحريرية أو مشروع ثقافي.
كل من يملك اتصالًا بالإنترنت يمكنه أن يُطلق مجلة، وكل من يملك رأيًا، يصبح
"كاتب رأي". لكن في غياب التحرير الجاد، والمراجعة المهنية، والتقييم النقدي
الحقيقي، تنقلب حرية التعبير إلى فوضى تعبير.
يتحول الفضاء الرقمي من ساحة للنقاش والإبداع، إلى ساحة مزدحمة بالأصوات المتداخلة،
دون بوصلات واضحة أو معايير ضابطة للجودة والمصداقية.
يقول الناشر والخبير في الإعلام الرقمي فيليبي ألونسو
في ندوة نظمها المركز الأوروبي للصحافة:
"النشر الرقمي أتاح لنا حرية غير مسبوقة، لكنه أيضًا ألغى حراس البوابة، فصرنا
نفتح الأبواب على مصراعيها لكل شيء، ولكل أحد."
وهو ما يعني أن اختفاء الرقابة لا يجب أن يكون مرادفًا
لانهيار المسؤولية التحريرية، بل يستدعي بناء وعي ذاتي بالمعايير والمساءلة.
مجلات أم شبكات ترويج اجتماعي؟
كثير من المجلات الإلكترونية – رغم تعدد لغاتها وثقافاتها
– لم تعد تُدار بمنطق النشر الثقافي أو الصحفي، بل أقرب إلى منطق إدارة المجتمعات الافتراضية.
تحوّلت إلى فضاءات تفاعلية يغلب عليها منطق "الإعجاب"، حيث تحكمها علاقات
شخصية أكثر مما تضبطها رؤية تحريرية.
تكريمات بالجملة، ألقاب فضفاضة، جوائز بلا معايير،
ومجاملات تتخفى وراء أقنعة أدبية. والمشكلة أن هذه المظاهر لا تُراكم قيمة ثقافية،
بل تصنع وهماً بالنجاح والشهرة.
في دراسة صدرت حديثًا عن جامعة أوكلاند حول مستقبل
الصحافة الثقافية، يخلص الباحثون إلى أن:
"أغلب المجلات الإلكترونية لا تصنع جمهورًا قارئًا، بل جماعة من المصفقين... وهذا
لا يُنتج ثقافة، بل يُكرّس تكرار الذات".
وهو ما يفرغ التجربة الثقافية من بعدها التفاعلي الحقيقي، ويحوّلها إلى دائرة مغلقة
من الإطراء المتبادل.
التكريم بدل التقييم... ظاهرة عابرة للغات
في المجلات الورقية الكلاسيكية، كان الطريق إلى النشر
طويلًا: لجنة قراءة، محرر أدبي، ثم موافقة مدير النشر. أما اليوم، فكثير من المجلات
الإلكترونية تنشر وتكرم في يوم واحد، وأحيانًا في لحظة واحدة.
في بعض المنصات، كل مقال يُنشر يصبح "رائعًا"،
وكل كاتب "ملهمًا"، وكل نص "فتحًا جديدًا"، بصرف النظر عن قيمته
أو لغته أو بنيته.
إنه واقع يتجاوز اللغة والحدود. فالسطحية الرقمية
أصبحت عابرة للقارات، تُكرّس شكلًا من الرداءة المعولمة التي تتشابه في مظاهرها وإن
اختلفت لغاتها.
والأسوأ أن هذه المنصات تسهم – عن غير قصد – في تشويه
الذائقة العامة. حين تُكرَّس الرداءة، تتحول تدريجيًا إلى معيار. وحين يغيب النقد،
يُختزل الأدب في اللايكات، ويتحول المحتوى الإبداعي إلى مجرد وسيلة لجذب الانتباه بدل
مساءلة العالم وتحفيز التفكير.
لا عودة للورق... لكن لا بد من فرز
من السذاجة المطالبة بالعودة إلى الصحافة الورقية.
المستقبل رقمي بلا شك، والمجلات الإلكترونية لم تعد خيارًا بل واقعًا. لكن هذا لا يعني
أن كل ما يُنشر رقمياً يمتلك القيمة نفسها أو يستحق الاهتمام.
المستقبل لا يُصنع بعدد النقرات، بل بجودة ما يُقرأ
ويُنتج. فالمعايير النوعية تظل حجر الأساس في أي مشروع ثقافي جاد، سواء كان رقميًا
أو ورقيًا.
ما تحتاجه المجلات الإلكترونية – أيًّا كانت لغتها
أو جمهورها – ليس الانغلاق، بل إعادة التأسيس على قواعد صلبة:
• أن تعود إلى فكرة التحرير الحقيقي، لا النشر السريع
والمجاملات الرخيصة.
• أن تُخضع النصوص للتقييم، لا للتزكية العمياء أو
المجاملة الآنية.
• أن تعيد الاعتبار للقرّاء، لا للمجاملة المتبادلة
التي تُضعف الإبداع.
والأهم من ذلك أن تُؤمن أن الحرية لا تعني الفوضى، وأن الانفتاح لا يُلغي الحاجة إلى
التقييم.
بين وهم الانتشار وغياب التأثير
نعم، المجلات الإلكترونية تنتشر أكثر من أي وقت مضى،
وتتوسع جغرافيًا وزمنيًا بفضل التقنيات الحديثة. لكنها، في المقابل، تؤثر أقل مما ينبغي،
وتفشل في بناء جمهور واعٍ ونقدي.
النشر لا يعني الوجود، و"الوصول" لا يعني
بالضرورة "الأثر"، بل قد يكون الانتشار الواسع غطاءً للفراغ المعرفي.
إذا لم تكن هذه المجلات قادرة على تكوين ذائقة، وإنتاج
معرفة، وتدريب جمهور على التمييز، فهي مجرد فضاءات للسطحية... تلمع، لكنها لا تُنير.
وفي نهاية المطاف، ليست المسألة في عدد القرّاء، بل في نوعيتهم، وفيما إذا كانوا قادرين على أن يصبحوا شركاء في مشروع ثقافي نقدي، لا مجرد متابعين عابرين.