📁 تدوينات جديدة

"أنفاس الحكايا" فسيفساء السرد في أبهى تجلياته

 

"أنفاس الحكايا" فسيفساء السرد في أبهى تجلياته

مقدمة

في كل إصدار جديد، تثبت "سلسلة أصداء الفكر" أنها ليست مجرد مشروع نشر، بل ورشة فكرية حية تنبض بهاجس التجديد والانخراط النقدي في أسئلة الكتابة المعاصرة. فبعيدا عن الاستسهال السردي والانبهار الفارغ بالشكل، تضع السلسلة نصب أعينها إعادة الاعتبار للكلمة بوصفها فعلا جماليا ووجوديا، يمتح من نبض الإنسان وينحاز لقضاياه العميقة.

ويأتي العمل القصصي الجماعي "أنفاس الحكايا" بوصفه تجسيدا واعيا لهذا التصور، إذ لا يقتصر على إغناء المشهد الثقافي كميا، بل ينخرط فيه كيفيا، من خلال فسيفساء سردية تتداخل فيها الأصوات واللغات والأساليب، لتصوغ مرآة متعددة الأبعاد للوجدان، في تمظهراته الذاتية والجماعية، الحميمية والمجتمعية، الواقعية والمتخيلة.

هنا، لا تقدم الحكايات كمجرد نصوص للمتعة أو التأمل العابر، بل كتمارين سردية على الإنصات، ومرايا للتشظيات والانكسارات والانبعاثات التي يعيشها الإنسان في ظل التحولات المتسارعة. لذا، يمكن اعتبار "أنفاس الحكايا" لا فقط تجليا إبداعيا، بل موقفا جماليا يقاوم الابتذال، ويعيد للسرد مكانته كأداة تأمل وفعل رمزي للمقاومة.

نص جماعي بوحدة فنية

يتميز إصدار "أنفاس الحكايا" بخصوصيته اللافتة كنص جماعي لا يذوب في العمومية، بل ينتصر للفرادة دون أن يقع في التفكك أو التشظي. إذ يجتمع فيه أكثر من ثلاثين صوتا سرديا من مختلف الأقطار: من المغرب والعراق إلى فلسطين وتونس ولبنان وسوريا ومصر... غير أن هذه الجغرافيا المتنوعة لم تكن محض تمثيل رمزي أو توزيع إقليمي للاسم، بل تجسدت كنسيج حي من التجارب الفردية المتقاطعة، حيث تتكثف الأسئلة الوجودية والإنسانية بلغة تنهل من مرجعيات ثقافية متباينة، وتعيد إنتاجها داخل وحدة فنية تراهن على الصدق والعمق والابتكار.

وما يلفت حقا هو قدرة هذا العمل على تجاوز مخاطر التنافر أو التكرار، ليقدم نموذجا لفسيفساء سردية دقيقة التركيب، يتجاور فيها الكتاب لا على قاعدة التشابه، بل على قاعدة التكامل التعبيري والتجاور الفني. كل نص يحتفظ بجمرته الخاصة، بوهجه الأسلوبي وبصمته الإبداعية، في حين تنسج المجموعة بكاملها مقطعا موسيقيا متعدد الآلات، لكنه موحد اللحن.

بهذا المعنى، لا تمثل "أنفاس الحكايا" مجرد تجميع نصوص، بل بناء سرديا تراكبيا، ينتصر لفكرة الأدب كفضاء تشاركي يعيد توزيع المعنى بين الذوات الكاتبة والمتلقية، ضمن نسيج يزاوج بين اختلاف التجارب ووحدة الرؤية الإنسانية.

تنوع الأساليب والأنماط السردية

يتجلى في "أنفاس الحكايا" ثراء فني لا يقتصر على اختلاف المواضيع أو تنوع الأمكنة، بل يمتد ليشمل تنوعا لافتا في الأنماط والأساليب السردية، ما يجعل من كل نص تجربة مستقلة لها منطقها الجمالي الخاص، وأدواتها التعبيرية الفريدة. تتأرجح القصص بين الواقعي المأزوم والغرائبي الهارب من قبضة اليومي، بين البوح الذاتي المحتد والتأمل الفلسفي العميق، بين الحكاية المتماسكة البناء والسرد المقطع الذي يحاكي فوضى الذاكرة وهشاشة الشعور.

هذا التنوع الأسلوبي لا ينم عن تباعد في الرؤية، بل عن وعي جمالي برهاني يتعامل مع القصة القصيرة بوصفها مختبرا للغة والتقنية، لا مجرد وعاء للحكي. فتجد القارئ أمام نصوص تزاوج بين التكثيف والدفق، وبين الشعرية السردية والتقريرية الرمزية، في توازن دقيق يجعل القصة تتنفس من الداخل، لا من الخارج.

ولعل المفارقة الجمالية في هذا التنوع تكمن في كونه لا يشتت القارئ، بل يحفزه على إعادة النظر في معايير التلقي التقليدية. فكل قصة تفرض طريقتها الخاصة في القراءة، وتدعو المتلقي إلى نوع من "التواطؤ الفني" مع أسلوبها، ما يفتح المجال لقراءة نشطة لا استهلاكية، تتفاعل مع النص لا تستهلكه.

بصمة الإشراف وإرادة المشروع

وراء كل عمل جماعي ناجح، تقف رؤية تنسيقية صلبة تنقذه من فوضى النوايا الفردية، وتمنحه ملامحه الجماعية الواضحة. وفي "أنفاس الحكايا", تتبدى هذه الرؤية في إشراف الأستاذ حسن امحيل، الذي لا يكتفي هنا بدور المنسق أو الجامع للنصوص، بل يضطلع بمهمة أو بالأحرى رهان ثقافي، يسعى من خلاله إلى تحويل الكتابة القصصية من فعل فردي متقوقع إلى فعل جماعي يراهن على الشراكة الجمالية والمصير الإبداعي المشترك.

تحت إشرافه، لا يظهر الكتاب بوصفه تجميعا ارتجاليا لنصوص متفرقة، بل كمشروع أدبي مدروس، يؤسس لفضاء سردي بديل، يتسم بالتعدد والانفتاح دون أن يفقد عمقه أو يتنازل عن مستواه الفني. وما يضفي على هذا الإشراف قيمته النوعية هو الانتماء إلى روح "أصداء الفكر"، المنصة التي استطاعت، رغم محدودية إمكانياتها المادية، أن تفرض حضورها الرمزي كمختبر حر للكتابة الجادة، ومكان حقيقي لاكتشاف الأصوات الجديدة ودعمها خارج أروقة المؤسسات الرسمية.

إن ما قام به المشرف على هذا العمل ليس مجرد تنظيم جمالي أو فني، بل هو تعبير عن إرادة ثقافية مقاومة لتمركز النشر في أيدي القلة، وللركود الذي يطبع كثيرا من المشاريع الجماعية التي تنطفئ بعد أول إصدار. "أنفاس الحكايا"، بهذا المعنى، ليست فقط عملا أدبيا، بل مشروعا استراتيجيا لمستقبل السرد المشترك.

الحكاية كهوية مشتركة

ليست الحكاية في "أنفاس الحكايا" مجرد بنية سردية أو تمرين بلاغي، بل هي – في عمقها – شكل من أشكال المقاومة الرمزية ضد النسيان، وضد الانمحاء في واقع تتسارع فيه وتيرة الاستهلاك وتذويب المعنى. فالنصوص هنا لا تكتفي بتقديم الحكاية، بل تعيد التذكير بوظيفتها الأولى: أن تكون مأوى للذات، وأرشيفا للروح، وشكلا للتذكر العاطفي والمعرفي في آن.

تتنوع القصص في هذه المجموعة بين ما هو حميمي يعيد تشكيل ملامح الوجع الفردي، وما هو جمعي يلتقط اهتزازات الذاكرة الجماعية، لكنها تلتقي جميعا عند جوهر واحد: إعادة صوغ الإنسان من الداخل، لا بوصفه ضحية جاهزة، بل كذات متأملة، قلقة، شاعرة، ومقاومة بلغة الحكي. فالحكاية هنا لا تسعى إلى الترفيه، ولا تتقنع بالخطابة، بل تشتغل على بناء حميمية مع القارئ، تشركه لا في الأحداث فقط، بل في الانفعال والتأويل والتورط العاطفي.

إنها حكايات تروى بوعي نقدي، يعي هشاشة المعنى، لكنه يتشبث بضرورة إنتاجه. ولذلك، فإن "أنفاس الحكايا" تطرح سؤال الهوية السردية لا بوصفه إجابة جاهزة، بل كتمرين دائم على إعادة الاكتشاف، وكأن كل قصة تسأل القارئ: من نحن حين نروي؟ وما الذي نكونه خارج لغتنا؟

بهذا المعنى، تغدو الحكاية هوية، لا لأنها تعبر عن ماض متخيل، بل لأنها تؤسس لذات تجيد الإصغاء لنفسها وللآخر، وتتمرد على اختزالها في صورة واحدة أو رواية كبرى.

أصداء المستقبل: من الكلمة إلى الفعل

ليس "أنفاس الحكايا" مجرد منتج أدبي يضاف إلى رفوف المكتبات، بل هو لبنة في مشروع أوسع تنخرط فيه منصة أصداء الفكر بروح المثقف العضوي، الذي لا ينظر إلى الإبداع بوصفه ترفا نخبويا، بل كفعل ثقافي مقاوم يهدف إلى إعادة بناء الذائقة، وتحفيز السؤال، وخلخلة البنية السردية السائدة.

في زمن تغمر فيه الساحة الثقافية بمحتوى سريع الاستهلاك، وفي ظل تصحر نقدي وتراجع المنصات الحاضنة، ينهض هذا الإصدار كصيغة بديلة لما يمكن تسميته بـالنشر الهادف الملتزم، لا من حيث الموضوعات فقط، بل من حيث الرؤية والتخطيط. إنه إصدار ينتصر للكلمة النوعية، وللأدب القادر على توليد أثر يتجاوز لحظة القراءة العارضة.

ومن اللافت أن هذا الإصدار لا يتعامل مع القصة القصيرة كجنس أدبي ثانوي، كما درجت بعض النظرات النقدية التقليدية، بل يعيد تأهيلها كمختبر سردي رحب، قادر على اختزال التحولات الاجتماعية والنفسية في حيز لغوي مكثف، دون أن يفقد القدرة على الدهشة والتأثير.

إن "أنفاس الحكايا"، بصفته فعلا ثقافيا جامعا، يشكل نواة يمكن أن تتوسع لاحقا إلى مدارس سردية، أو تيارات موازية تؤسس لـ "أدب جماعي جديد" يتجاوز الأنا المتورمة، ويستثمر التعدد لا كفوضى، بل كقوة اقتراحية خلاقة. إنه ليس فقط مرآة لما كتب، بل مرآة لما يمكن أن يكتب حين تصبح الكلمة فعلا مؤسسا، لا صدى خامدا.

خاتمة

في زمن تختزل فيه الكلمة إلى محتوى، وتختزل الحكاية إلى منشور عابر، يأتي "أنفاس الحكايا" ليعيد الاعتبار لفعل الكتابة بوصفه طقسا جماليا وموقفا وجوديا في آن. هنا لا يقرأ السرد كأثر، بل كأفق؛ لا كمنتج نهائي، بل كعملية مستمرة لاستعادة المعنى من رماد اليومي والتكرار. هو كتاب ينصت للهوامش، ويقيم المعابر بين التجارب، وينحت فسيفساء لا تكتفي بتمثيل الإنسان، بل تسائله، وتعيد صياغته كذات متشظية تبحث عن خلاصها في الكلمات.

بهذا العمل، تعلن سلسلة أصداء الفكر التزامها الأخلاقي والجمالي تجاه القارئ: التزام لا يهادن الرداءة، ولا يجامل التكرار، بل يراهن على الأدب حين يكون ضروريا، حيا، ومحرضا على طرح الأسئلة لا تقديم الأجوبة الجاهزة.

"أنفاس الحكايا" ليس مجرد كتاب. إنه مأوى مؤقت لأولئك الذين لم يتخلوا عن الإيمان بقدرة اللغة على إعادة ترميم المعنى، وإعادة إنسانية الإنسان في عالم يوشك أن يفقد ملامحه.

لائحة المؤلفين

العراق
• إبراهيم، علي
• إسماعيل، سمير

المغرب
• الخربوع، أمينة
• الدباغ، عبد الرحيم
• الرايس، سعاد
• السكال، سناء
• الشهبي، أحمد
• العوالي، جواد
• الغندوري، عبد الواحد
• الفرون، حنان
• القرافلي، دلال
• الموذن، جهان  
• امحيل، حسن  
• أهمو، أسماء
• بوزين، عبد الإله
• عامر، جواد  
• علمي، فاطمة الزهراء  
• قجيع، منى
• لمين، حسن
• محجوبي، سهام
• ملواني، لحسن
• موسى وجى، فاطمة  
• همامون، هيثم

تونس
• الزايدي، وفاء
• فراح، نوال
• فهري، أميرة

سوريا
• الطويل، نسرين

فلسطين
• أبو سنينة، فوز
• بركة، فداء شحدة

لبنان
• قدوح، ميساء
• ناصر، آمنة محمد

مصر
• أبوزيد، عماد
• الشهاوي، صلاح
• عطية، عادل

🔗 تصفح الكتاب على أمازون
تعليقات