📁 تدوينات جديدة

ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ | فاطمة موسى وجى

ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ | فاطمة موسى وجى

فاطمة موسى وجى | المغرب

مقدمة

"وأنت أيها الصغير، ما تريد أن تصبح حين تكبر؟"

سؤال بليد جدا، لكن الإجابة قد تكون أقل بلادة. إجابات من قبيل "مهندس، طبيب، رسام، ممثل..."، لكن خلف هذا السؤال، يتراءى سؤال ثان: لماذا، في هذه النقطة بالذات، نأخذ الأطفال على محمل الجدّ؟؟؟

هناك فرضية لا يمكن البتّة إغفالها: توجيه هذا السؤال يقول عنا نحن الكبار أكثر ما يقوله عن الطفل.

عالم الأطفال غريب ومُربِك

يؤمنون بوجود الأشباح، يرون المخلوقات الفضائية تحت السرير، يشيدون الطوابق بقطع البلاستيك، يصادقون ويكلّمون شخصيات خيالية.... كل هذه الفوضى تغمرنا بالسعادة، وتدفعنا بقوة إلى محاولة مشاركتهم عالمهم الساحر. لكن حين نسأل طفلا: ماذا ستصبح حين تكبر؟ فإننا نسحبه من عالمه لنضعه في مواجهة مع عالمنا نحن الكبار، وكأننا نقول له: لن تعترضك الأشباح، ولن تكون لك صداقات خيالية، ولن تجد مخلوقات فضائية تحت السرير. وهذا بمثابة تمهيد، أو حتى تحذير للطفل بكون المستقبل حياة أخرى مختلفة.

وهكذا، وبدل أن نقف في مستوى الطفل، نحثّه على دخول مجموعة المهن والحرف، وكأننا نطلب من قطعة شطرنج أن تأخذ مكانها على أحد المربعات. وهنا قد يسقط بعض الكبار (الآباء خاصة)، في فخ تصديق إجابة الطفل، فتترسخ هذه الأخيرة، وبطريقة مؤثرة في خيالهم، وتجد بعضهم يفرض الفكرة لاحقا ويلزم بها الطفل في مراحل أخرى.

أما إذا كانت إجابة الطفل مخيبة للآمال، فلابد من استحضار الفرق الشاسع بين عالم الطفل وعالم الكبار الناضجين، هذا الفرق الراجع إلى اختلاف ذهن الطفل وتمثلاته حول العالم، والتي تتناقض وبشدة مع ما يراه الكبار.

أحيانا، قد نجد بعض المربين يحاولون أو حتى يعملوا بجهد على إنتاجية الطفل، بحيث يضعونه في خانة مهنة ما، في أنشطة تعليمية أو حتى ترفيهية، بغية أن تترسخ لديه روح المسؤولية، وتفاديا لفكرة تمضية الطفل للوقت في اللعب والجري والاستمتاع، متناسين دور اللعب المهم في تكوين شخصية الطفل. وقد يسبب هذا الخطأ في التربية زعزعة في استقرار الطفل النفسي، كون مرحلة الطفولة هي الأساس الذي ينبني عليه النمو السليم للطفل.

وضع الأطفال خارج عالمهم

غالبا ما يتوق كل طفل إلى شيء واحد وبشدة: أن يصبح كبيرا، وسؤاله عن حلمه يضفي نوعا من الصدق على حلمه، كما يضاعف من رغبته. وقد تقترن أمنيته أن يصير رجل إطفاء مثلا، برغبته في الكبر. ومع الوقت، يتحول الحلم إلى اعتقاد راسخ، ولا غرابة أن نسمع دوما من هذا الطفل، عبارة "أنا إطفائي".

هذه المحاكاة لعالم الكبار تحمل ما تحمله من محاسن، بحيث نجد الطفل ينهل من سلوكيات الكبار كل القيم والأخلاقيات التي تخدم رغباته وأمنياته.

بالنسبة للفيلسوف "هيغل"، سؤال الطفل عن مستقبله يساهم في تطوير استقلاليته، يساعد كذلك على صقل مواهبه والرفع من قدراته، ولِم لا رسم مسارات خاصة به في شبكة المهن المحتملة، وهكذا يتم إثارة أحلامه وتغذيتها.

مجرد حديث أم إسقاط؟

سؤال الطفل عن أحلامه في المستقبل قد يحكي الكثير عنا، فحين نعتاد طرح هذا السؤال على أبنائنا وأطفال آخرين، وبصفة مستمرة، فالأمر قد يخفي رغبة منّا في إسقاط أنفسنا على عالم لا نملكه. قد يكون دافعنا الحنين، أو مجرد رغبة في إحياء الصلة بحياتنا الماضية.

ككبار، نجد دوما أنفسنا في الأطفال، وبسؤال الطفل عن حلمه، قد تجيب دواخلنا: ممرض، فنان، سباح...ومن خلال مشاهد فلاش-باك، نرى أنفسنا كأطفال صغار، بل نرى أنفسنا في الطفل الذي نحاوره.

حين يتحول الحلم إلى حقيقة

في حالات كثيرة، يتحول الحلم إلى حقيقة، بعد أن تطاله أحيانا بعض التعديلات أو التغييرات، وأحيانا أخرى قد يحتفظ بسيرته الأولى.

وإن كانت فرصة تحقيق الحلم الأول ضئيلة، فهي لا تمنع أبدا من القدرة على الحلم والرغبة الدائمة والملحة في جعل هذا الحلم حقيقة. وهذا لا يتأتى طبعا بالاكتفاء بالرغبة، بل بالعمل عليها، وهذا ما تضمنه سلسلة من التطورات الصغيرة التي تُترجم إلى خطوات فعلية حقيقية، يواظب عليها كل من الطفل، الأسرة، المدرسة والمجتمع ككل.

خاتمة

في لعبة يحكمها التفكير والتأمل، قد نتذوق من جديد طعم السؤال "ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟". وفي وقت تؤسسه القرارات والمواقف، يمكن أن تنقلب الموازين، فتهدم كل ما بنيناه في سماء الأحلام. ثم تتاح لنا فرصة أخرى، نعيد فيها توزيع القطع، بحثا عن شيء من الحظ والتوفيق، لنجد أنفسنا أمام سؤال ثان: ماذا ستفعل لاحقا؟ ونتذكر بعد ذلك أن "لاحقا" تحولت إلى "اليوم" والذي يمهد بدوره إلى غد آخر، ويظل السؤال يتكرر ويتكرر بلا توقف ولا نهاية.


تعليقات