📁 تدوينات جديدة

المنصة "PLATFORM": حين تدين السينما الطبيعة البشرية | فاطمة موسى وجى

المنصة "PLATFORM": حين تدين السينما الطبيعة البشرية | فاطمة موسى وجى

فاطمة موسى وجى | المغرب

"الجحيم هو الآخرون"، تلخص هذه المقولة لجان بول سارتر الصراع القائم بين الأشخاص، حيث يكون البعض تهديدًا للآخر. فيلم "PLATFORM" الإسباني جسّد بطريقة عبقرية، وبرمزية عالية، هذه الصراعات التي جعلت من العنف قانونًا ملزمًا لتحقيق العدالة.
في بناية أشبه بقلعة، شُيِّد سجن عمودي الشكل، طوابقه تُعدّ بالمئات، حيث يتشارك كل غرفة أو طابق سجينان. بأعلى البناية مطابخ عالية الطراز تُحضّر شتى أصناف الأطباق والمأكولات، ويتم تقديمها على منصة تنتقل من الأعلى إلى الأسفل. من البديهي طبعًا أن يكون سجناء الطوابق العليا أوفر حظًا من كل الموجودين بالأسفل، من يتغذّون على البقايا بعد أن يبلغ منهم النَصَب مبلغه.
للوهلة الأولى، قد يتبادر إلى ذهن المشاهد أن الفيلم يرمز إلى قيمة الغذاء وضرورة الحفاظ عليه وحسن توزيعه، لكن الحبكة تظهر العكس، حيث تعالج مواضيع وقضايا أبعد من ذلك بكثير.

الشكل العمودي للسجن: استعارة لهرمية المجتمع

الحفرة في تصميمها الرأسي هي تجسيد للصراع الطبقي السائد منذ الأزل، وهي بذلك استعارة لهرمية مجتمعاتنا الحالية.
تحديد مدة التزود بالطعام، منع الاحتفاظ بأيٍّ منه لوقت لاحق، إضافة إلى تغذي كل طابق على بقايا سابقيه، كلها قواعد، أو بالأحرى مظاهر، انتقد من خلالها المخرج مجتمعاتنا. ويمكن القول إن الفيلم ما هو إلا إدانة للطبيعة البشرية، وعرض دقيق وصريح لثنائية الغنى والفقر.
مما لا شك فيه أن أغلب مشاهد الفيلم تسلط الضوء على تراتبية المجتمع الحالي، عبر الشكل الرأسي للحفرة أو السجن، حيث يُرتّب الأغنياء في الأعلى والفقراء في الأسفل. غير أن بعض المشاهد جاءت لتلغي هذا الترتيب، أو تنفي على الأقل مدى ثباته.
حدث تغيير الطابق، الذي يتكرر كل شهر بعد إطلاق الغاز المنوم، ما هو إلا إشارة إلى كون الأشخاص لا يختارون المجتمع الذي ينتمون إليه، ولا الطبقة التي ينضمون إليها. هذا الانتقال بين المستويات يتولد عنه نوع من التوازن بين ظاهرتي الغنى والفقر، حيث يبقى كل شيء قابلًا للتغيير والتحول.
وفي حوار دار بين البطل ورفيقه تريماغاسي في الغرفة، أشار هذا الأخير إلى حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، حيث قال: "هناك ثلاث فئات من الأشخاص: من هم في الأعلى، ومن هم في الأسفل، ومن يسقطون."

المنصة "PLATFORM": حين تدين السينما الطبيعة البشرية | فاطمة موسى وجى

غريزة البقاء: وجه آخر للعنف

كان شعور المساجين بالجوع عاملًا محرّضًا على كل السلوكيات العنيفة، وقد ظهر ذلك جليًا في محاولة تريماغاسي قتل غورينغ، مثلما تصرف سجناء آخرون غيره.
في مشاهد عدة، كان السجناء على استعداد لأي فعل من أجل الحصول على نصيبهم من الغذاء وضمان البقاء. الموسيقى التصويرية، والديكور القاتم، وكذا الإنارة المظلمة، كلها عوامل ضاعفت الشعور بالقلق لدى البطل غورينغ وجرّدته من إنسانيته. وبعد أن كان العنف أمرًا منبوذًا وحلًّا مرفوضًا، صار أخيرًا هو القاعدة أو المبدأ الذي يضمن لكل شخص حقه في الغذاء داخل السجن.
في وقت ما، استوعب غورينغ ورفيقته في الغرفة أن بمقدور كل السجناء تغيير وتحسين الأوضاع إذا ما تمكنوا من تغيير رؤيتهم للأمور. لذلك، اقترحا فكرة تقاسم عادل للأطباق، يوفّر الغذاء للجميع ولكافة الطوابق.
بعد محاولات عدة، استُنزفت فيها كل الطاقة والجهد، اتضح للبطل أن قانون الغاب هو ما يحكم الحياة داخل السجن وخارجه. وفي النهاية، سيادة العنف وسياسة التهديد كانتا نتيجة بديهية وحاسمة لعدم التمكن من السيطرة على الأمر بشكل عقلاني.

بين الأنانية والإيثار

مع توالي المستويات أو الطوابق، يقابل البطل غورينغ شخصيات متباينة، تختلف من حيث مبادئها وأولوياتها ومفهومها عن الحفرة التي تجمعهم، وحتى طريقة العيش المشترك فيها.
المستوى الأول، الذي وُجد فيه غورينغ، يمثل شراهة البشر من أجل البقاء، في شخص تريماغاسي، والذي كان مثالًا ونموذجًا عن الأنظمة الفاسدة التي تحكم المجتمع وتسوده.
المستوى الثاني، الذي انتقل إليه البطل، عكس سابقه، يقدم نموذجًا للإيثار ومحاولة للتآزر، جسدته شخصية إيموغيري، والتي اقترحت تقاسم الأطباق والاكتفاء بالضروري، رغبة في توفير الحصص الكافية للجميع ولكل الطوابق. فكرة إيموغيري في حد ذاتها دعوة صريحة إلى العدل والمساواة، وهي قبل ذلك ثورة على الميز والطبقية. وكما هي العادة في الطبيعة البشرية، فكل حياد عن المألوف والسائد يُعتبر انحرافًا وجب تقويمه وتعديله.
فكرة إيموغيري أقنعت إلى حد ما غورينغ، الذي كان مناهضًا للعنف. لذلك وجدت لديه كل التأييد والدعم من أجل نقل الفكرة إلى طوابق أخرى. لكن، بدل أن يقابل الاقتراح بالقبول، تم رفضه ومحاربته، ليؤمن كل من في السجن بمبدأ: "أنا والطوفان من بعدي"، وتكون الغلبة للأنانية على حساب الإيثار.
في مستوى لاحق، تأخذ الأمور منحى آخر، بحيث يتحول الانتباه والاهتمام من فكرة تغيير المبدأ إلى محاولات إيجاد الطفلة الضائعة. وفي هذا المشهد، تُطرح مجموعة من التساؤلات حول الانتقال من التمركز حول الأنا إلى الاهتمام بالغير.
في محاولاتهما مساعدة السجناء، اقترف غورينغ ورفاقه عدة جرائم، وحاولا عبثًا التأثير على النظام الاجتماعي كونه قوة ضاغطة. وهكذا يعرض أمامنا الفيلم مجموعة من التحديات والإكراهات التي تواجه أي محاولة أو حتى تفكير في تغيير أو تحسين أوضاع المجتمع.
كان لجميع شخصيات السجن أهداف يتوقون إلى تحقيقها أو بلوغها، وقد كان ولوج الحفرة عن رغبة من قبل بعضهم، عكس آخرين دخلوا السجن بحثًا عن الحرية. وإن كانت هذه مفارقة غريبة إلى حد ما، فهي شكل آخر من أشكال الثورة على مجتمع يحكمه الفساد والطبقية.
أغلب السجناء قضوا قبل بلوغ غاياتهم، وهذا دليل آخر على قساوة النظم الاجتماعية.
نهاية الفيلم تم تجسيدها في شخصية الطفلة، رمز النقاء والبراءة، وهي رسالة واضحة بكون الأطفال هم الأمل في كل تغيير إلى الأفضل. وهذه، في حد ذاتها، جرعة من التفاؤل كانت كفيلة بإبادة كل الظلام الذي لوّن كل مشاهد الفيلم.

المنصة "PLATFORM": حين تدين السينما الطبيعة البشرية | فاطمة موسى وجى

تعليقات