📁 آخر الأخبار

أرصفة الانتظار | قصة: منى قجيع

أرصفة الانتظار | منى قجيع
 

منى قجيع | المغرب

وثبَ المساءُ فجأةً حين كنتُ أمشي في الشارع، الرياحُ صيفيّة تحرّك أعالي الشجر، والقامات تعبر الأرصفة والشوارع، وفتاةٌ بابتسامة صغيرةٍ حزينة قد رُسمت على شفتيْها كحبّة رمّان، يعكس ضوء المصابيح المعلّقة بالأعمدة وجهَها المسكون بالأسى. حين لفّت ساقًا حول ساقٍ، وحين شدّت بكلتا يديْها حقيبةَ ظهرٍ، تيقّنتُ أنّها تنتظرُ أحدهم مثلي.

لاحَ وجهها تحتَ وهج الأضواءِ الخافتةِ، قرصًا مدوّرًا متوهّجًا يناجي النجوم المزروعة في السماء.

تخيّلت وجهها شمسَ الرجل الذي تحبّ، ريحانه وبراريه، زمنه وزمانه المنحلّ المتسلّل من حزنٍ خافتٍ وصغيرٍ. أردتُ الاستئناس بها، فوقفتُ بجانبِها مرافقةً إيّاها في رحلةِ الانتظارِ.

حين مرّ الزمنُ بطيئًا في سلسلة عدميّة من التّهاويم والتّساؤلات، جلستُ على عتبةٍ أمام مدخل إحدى العماراتِ أنتظر، أرقب قامةً أعرفها، أعرف أديمها ونتوءاتها.. قامة الرجل الذي أحبّ...

لم أنتمِ لشخصٍ منذ زمن بعيد، ولم أتغلغلْ في مسامِّ شخصٍ منذ زمن بعيد.

شاعرةً بالخواءِ وبنقصٍ يتسرّب داخلي، رأيتُ ظلّ الفتاة يتقدّم نحوي، حيث أجلس.

ضممتُ قدميّ إلى بعضهما، وضغطتُ على منكبيّ أكثر، حتى أفسح لها قليلاً.

جسدان حزينان في شارع حزين، على عتبةٍ انزلقت سهواً من فاهِ عمارةٍ.

كنتُ أشرئب بعنقي نحو الغرف الصغيرة المعلّقة بالسماء الليلاء، أرقب رنّة هاتفي، وإذ راحت هي تحكي عن الحزن المستمرّ، والانكسارات المستمرّة، والجروح التي لا تندمل، وعن الزمن الناقص الدامي، والقلق الوجودي الذي لا يني.

امتصّت بشفتيها عقب سيجارة كانت تنفث دخانها، دسّت يدها في حقيبتها، بحثتْ في أغراضها وكأنّها تفتّش عن حزنٍ قديمٍ يتبعها. كانت هناك صورة بيدها، صورة مخدوشة قليلاً، مهترئة من الأطراف.

فتاةٌ في الصورة، بابتسامة صغيرةٍ حزينة، تستقبل عالمًا أكثر صغراً وأكثر حزنًا. فتاةٌ لا تختلف في تقاسيم الوجهِ عن الفتاة التي تجلس بجانبي.. فتاةٌ بعينين لامعتين دامعتين، فتاةٌ تشيح بوجهها عن الأسى، فتاةٌ تنبسط حذوها قامةُ رجلٍ أسمر البشرة، فاتحًا ذراعيه، مطوّقًا إياها، حاملاً إياها من تحت إبطيها، متمرّغًا معها على رملِ شاطئٍ بعيدٍ.

أشعلتْ سيجارةً أخرى، حرقت شفتيها مجددًا وهي تقول:

"افترقنا منذ مدّة، منذ شهرٍ أو شهرين، لا أذكر.. كل ما أذكره هو أنّني أنتظره هنا دائمًا، لكنّه لا يأتي... هنا التقيتُ به أوّل مرّة، لولا ذاك اللّقاء الذي كان صدفة، لما كنتُ هنا. بعض الأماكن ليست حجارة وترابًا، بعض الأماكن بشر... هو لا يستطيع المضيّ حتى النهاية، وحدي أنا كنت قادرةً على أن أعبر البدايات، أن أتسلل إلى النهايات."

تذكّرتُ فجأة أن هذا العالم مشحونٌ بالعواطف الكاذبة، حاولتُ أن أختلق حزنًا باردًا، حزنًا لم أعتدْ عليه، أو استياءً خافتًا. ليست وحدها الضحيّة في هذا العالم؛ يمرّ من هنا كلّ البشر، كلٌّ يحمل قلبه على كفّه. إنّ الأرض لم ترتعشْ لخيبات العالم، فكيف لقلبي أن يهتزّ لمآسٍ لا تني؟

حملتُ وجهي بين راحتي يديّ، ولويتُ عنقي نحو الاتجاه الآخر، الاتجاه الذي لا أرى فيه وجهها الحزين وشفتيها المومئتين. تخيّلتُ فراقًا بيني وبين الرجل الذي أحبّ، فسرت داخلي رعشةٌ تشبه صعقة الكهرباء، رعشةٌ تهزّ الجسد كلّه، ترجّ الأغوار العميقة الدفينة.

كيف أحببته؟ هل ما أعيشه حقيقةٌ أم وهمٌ؟ هل إنني أنتظر ذاك الذي يقول إنّه يؤمن بمركزية الإنسان ووحدة البشر وقيمتي الكرامة والحرية؟

أنا لم أسمع بهذه القيم سوى على الشاشات، وبالمناقشات، وبخطابات الزعماء على أزمنةٍ متعاقبة. هل أنا حقًا هنا، أمام عمارةٍ راشحةٍ من زمن الاستعمار الفرنسيّ، أنتظر رجلًا ماضياً في المعرفة حتى الأقصى، معلّمًا صغاره أنّ الحرية قبل كلّ شيء، وأنّ القيم لا تتجزّأ، وأنّ سميح قاسم أكثرُ إنسانيّةً من محمود درويش؟

حوّمت التّهاويم حولي، وثبتْ أسئلة كثيرة أمام عينيّ، أهمّها كان:

هناك بشرٌ لا يحملون صدقًا في المسامّ والدّم، كيف تكون كتاباتهم جيّدة؟

مددتُ يدي نحو حقيبتي، رنّ الهاتف، كان يطمئنني أنّه يغادر لتوّه أطفاله في المعرفة نحوي، وأنّه آتٍ حالاً. لمّا سمعتني الفتاة وأنا أقول:

"انتظرتك طويلاً، عجّل!"

مالت بكامل جسدها نحوي وهي تقول:

"أنا أيضًا انتظرت طويلاً، ولم يكن باستطاعتي الهجس بأنني سأخسره يوماً رغم إلحاحه الدائم على هاجس الرحيل، لم يكن قادراً على أن يمضي حتى النهاية."

حين هممتُ بالنهوض، وخيّرتُ السير على الجلوس بمكانٍ مسكونٍ بالفقد، انطفأت مصابيح الشارع. سرتُ محاذية الحائط، أفكّر في الفقد والفراق والرحيل والهشاشة، أنوس بين الوجوه، أبحث عن لحظة صافية كالدّمع، لحظة تجمعني برجلٍ يكفرُ بكلّ القيم، ويؤمن بعقيدة البقاء.

تعليقات