أصداء الفكر | المغرب
وفاة الفنان الكبير محسن جمال
في صباح الإثنين 21 أبريل 2025، خيّم الحزن على الساحة الفنية المغربية، بعد
إعلان وفاة الفنان الكبير محسن جمال، عن عمر ناهز 77 سنة، بإحدى المصحات الخاصة بمدينة
طنجة، بعد صراع طويل ومرير مع المرض. برحيله، طوى المغرب صفحة فنان من الزمن الجميل،
صاحب صوت نادر، وذاكرة موسيقية غنية، وجيلٍ صنع مجده بهدوء، بعيدًا عن صخب الشهرة اللحظية.
من طنجة… بدأت الحكاية
ولد محسن جمال، واسمه الحقيقي محسن بن شقرون، سنة 1948 بمدينة طنجة، المدينة
التي كانت آنذاك فضاءً للثقافات المتعددة، وجسراً بين الشرق والغرب، وبين القديم والجديد.
في أزقتها العتيقة، تشرب الفتى حب الطرب، وتفتحت أذنه على أصوات عمالقة الأغنية المغربية
والعربية، من عبد الوهاب إلى عبد الهادي بلخياط، ومن أم كلثوم إلى محمد فويتح.
في سن مبكرة، بدأ محسن يشارك في سهرات الحي والمناسبات العائلية، يحمل عوده
بتردد، ويغني بخجل، لكنه كان يحمل في صوته شيئاً من الدفء والصدق، ما جعله محط إعجاب
من حوله. ثم التحق بالمعهد الموسيقي بطنجة، حيث تلقى تكوينًا أكاديميًا صقل موهبته،
وفتح أمامه أبواب الاحتراف.
الانطلاقة الفنية: الثمانينيات الذهبية
شهدت السبعينيات والثمانينيات انفجارًا إبداعيًا في الأغنية المغربية، وظهر
جيل من الفنانين الذين حملوا راية الأصالة والتجديد في آن واحد. وسط هذا الزخم، استطاع
محسن جمال أن يجد لنفسه موطئ قدم، بصوته العذب وإحساسه العالي، وباختياره الدقيق للكلمات
والألحان.
أشهر أغانيه مثل:
- "الزين فالثلاثين"
- "سمع ليا نوصيك"
- "أكيد أكيد"
- "عيونك قالو لي"
- "يا الغادي فطريق مولاي عبد السلام"
لم تكن مجرد أغانٍ للترفيه، بل كانت قصائد مغناة، تتحدث عن الحب والهوية والمكان،
وتحمل نكهة مغربية خالصة.
تميزت ألحانه بتوظيف رائع للتراث الموسيقي المغربي، خاصة الأندلسي والعيطة
الشمالية، مع لمسة حداثية ناعمة جعلت صوته يعبر الأجيال. وكان دقيقًا في اختياراته،
لا يرضى بالابتذال، ولا يلهث وراء الأضواء. الفن عنده رسالة وجمال، وليس وسيلة للشهرة
فقط.
وفاء للفن
من أبرز ما ميز مسيرة محسن جمال، علاقته الوثيقة بكبار الملحنين والشعراء
المغاربة، فقد تعاون مع:
- عبد السلام عامر
- عبد الرحيم السقاط
- محمد الكحلاوي
- عزيز الحوري
كما غنّى من كلمات شعراء كبار، وأجاد التعامل مع النصوص الشعرية بمهنية عالية.
لم يكن مجرد مؤدٍّ، بل فنانًا كاملاً يشتغل على تفاصيل اللحن، ويعيش الأغنية بكل وجدانه.
ورغم الفرص المتاحة، لم يركض محسن جمال وراء موجات "البوز" أو اللهجات
التجارية، بل ظل وفيًا للأغنية المغربية، في زمن كانت فيه تغزوها الأنماط الاستهلاكية.
المعاناة… في صمت
في العقد الأخير من حياته، بدأ محسن جمال يعاني من متاعب صحية مزمنة، خضع
بسببها لعدة عمليات جراحية، من بينها عملية بتر لإحدى ساقيه، ما أثر على حركته وحضوره
الإعلامي. لكنه ظل شامخًا، يحارب الألم بالصبر، ويخفي جراحه بابتسامة المؤمن بقضاء
الله.
ظلّ صوته حاضراً في الحفلات الإذاعية، وبرامج الذكريات، وظلّ محبوه أوفياء
له، يتابعون أخباره ويستعيدون أغانيه، خاصة في الأعياد والمناسبات الوطنية.
ورغم قلة حضوره في المهرجانات الفنية، ظلّ رمزًا للأصالة والوفاء للفن. وظلّ
يحظى باحترام كبير في الوسط الفني، من الفنانين الشباب والكبار على حد سواء.
التقدير… بعد الرحيل؟
رغم كل ما قدمه، لم يحظ محسن جمال في حياته بالتكريم الذي يليق بمقامه. لم
يُمنح الجوائز الكبرى، ولم تسلط عليه الأضواء كما فعلت مع آخرين أقل منه عطاءً. وربما
يكون هذا من مفارقات الفن المغربي، حيث لا يُنصف الكبار إلا بعد أن يرحلوا بصمت.
واليوم، بعد رحيله، انهالت التعازي من كل ربوع المغرب، ومن الفنانين والموسيقيين
والنقاد، الذين أجمعوا على مكانته الفريدة، وعلى الخسارة الكبرى التي مُني بها الفن
المغربي.
إرث فني خالد
ما يواسي محبيه، أن محسن جمال ترك إرثًا فنيًا غنيًا. أغانيه ما تزال تُذاع،
وصوته لا يزال قادرًا على لمس القلوب. سيبقى في الذاكرة، كرمز من رموز الأغنية المغربية،
وكفنان عاشق لفنه حتى آخر لحظة.
إنه يمثل جيلا من الفنانين الذين لم يساوموا على الذوق، ولم يركبوا موجة
الاستسهال. جيل من الفنانين الذين صاغوا وجدان المغاربة بأصواتهم الصادقة، وكلماتهم
النقية.
وداعًا أيها الصوت الدافئ
رحل محسن جمال، لكن صوته سيظل يدندن في مسامعنا، وسيظل عشاق الطرب الأصيل
يرددون أغانيه بكل حنين. وداعًا أيها الفنان الأنيق، أيها المغربي النبيل، يا من غنّيت
للحب والجمال والوطن. ستبقى في القلب، وفي ذاكرة وطنٍ يعرف كيف يودّع الكبار… ولو متأخرًا.