📁 تدوينات جديدة

حين تعزف الأقدار على أوتار القلب | منى قجيع

حين تعزف الأقدار على أوتار القلب | منى قجيع
 

منى قجيع | المغرب 

إن تسمية كلمة موسيقى (musique) تعود جذورها إلى الأسطورة الإغريقية، وتعني في الواقع "l'art des muses" (فن الحوريات الملهمات، البنات التسع للآلهة زيوس ومنيموسين، إلهة الذاكرة، وأن الحوريات الملهمات ألهمن الإنسان وعلمنه الشعر، الغناء، الذاكرة والتراجيديا. لطالما أسرتني هذي الفكرة. إن الموسيقى ليست كباقي اختراعات البشر على مر الأزمنة، إن ذلك الإحساس العظيم بالنشوة والاحتواء الروحي لا يمكن أن يكون مأتاه مجرد مسألة تقنية، ذلك الإحساس الغامر والعصي على التفسير الذي يدفعنا لمجرد سماع موسيقى أو اغنية ما للتأمل حول الحياة والوجود والحب، لا يمكن إلا أن يكون ذو بعد أسطوري روحاني ينصهر فيه الشعري مع الملحمي والحب مع التراجيديا والفني بذاكرة الإنسان والشعوب. لا يمر شهر واحد حتى تحدث مصادفة ما تعيد تلك الفكرة إلى الرأس والتفكير...

اتصلت بي صديقتي ليلى لتعلمني أنها ستتأخر ساعة عن موعدنا لطارئ ما. قلت في نفسي لحسن الحظ أني جلبت معي "فن العيش الحكيم" لشوبنهاور، يساعدني الكتاب في ملء وقت الانتظار. كان المقهى شبه خال. توجهت للنادل وطلبت قهوة، وعندما أتى مبتسما مع طلبي، لاحظ امتعاضي من الموسيقى وأنا ممسكة بالكتاب، أغنية بكلمات بلهاء لا معنى لها، تشبه هذيان مجنون.

- هل تريدين أن أغير الموسيقى؟ إن كان لديك نوع مفضل يكفي أن تعطيني الاسم... أنا أيضا قارئ وبعض أنواع الموسيقى تفقدني التركيز...

- أفضل أن أترك لك حرية الاختيار... شكرا.

بعد بضع ثوان، تناهى إلى مسامعي نغمة مألوفة، تعرفت إلى الأغنية على الفور، ابتسمت، تركت الكتاب جانبا مستسلمة للذكريات المتعلقة في ذهني بتلك الأغنية حتى صدح صوت داليدا الشجي الساحر في المكان بكوبليه:

"قبل الوداع كنا بنقول إن الفراق ده مستحيل، وكلّ دمعة على الخدّين كانت بتسيل مليانة بأمل إن احنا نبقى موجودين في بحر الحبّ على الشطين..."

البعد العاطفي الكامن في بعض الأغاني لم يكتب بطاقة شعرية فقط، بل بوجع الشاعر وجوارحه. جملة واحدة في أغنية واحدة كفيلة لوحدها بأن تجيبنا على تساؤل لطالما أرقنا: لماذا يتألم البعض منا بعد الحب؟

علاقات الحب تبنى غالبا على وعود وانتظارات، وعود بالمستقبل، بالبقاء، بالأبدية، بعدم الخذلان... انتظارات ربما لا نبوح أو نصرح بها، لكنها موجودة في دواخلنا بشدة. ربما لهذا السبب يتخلل العلاقات أحيانا إحساس الخوف، لأن الوعود والانتظارات جوهرها، صخرتها الأولى التي تبنى عليها، أرضها الصلبة التي تقف عليها... وعود إن لم تتحقق ستكون خيبة أمل خانقة، وانتظارات حتى إن لم نصرح بها فإننا نقولها في كل لحظة بطرق غير مباشرة، بأيادينا الممدودة على اتساعها متحدية الخوف والشك، بأن نكون بجوار بعضنا البعض في الأوقات الصعبة، أو لحظات السقوط. وفي كل يوم تتجدد الوعود، تنمو وتكبر ونحن نغمرها بالرعاية ونسقيها بالتفاصيل الصغيرة وكلمات الحب، حتى تأتي مواقف الحياة لتكشف زيف بعض الوعود ويتداعى كل شيء، في لحظات، هكذا ببساطة. ويتحول من كان بالأمس شريك كل تفاصيلك اليومية وأحلام حياتك إلى مجرد غريب، ليس في قربه أنس ولا في غيابه نقصان أو أذى. يا لها من مفارقة رهيبة.

قلت في نفسي، لا غرابة أن أجمل قصص الحب، هي تلك التي لا تقدم لنا أية وعود، بيد أنها تعطينا كل شيء... تلك التي كلما قلت انتظاراتها، قل الخوف فيها وكثر سلامها، تلك التي تكون بمثابة الأجنحة في مواجهة كل الاقفاص التي تطوقنا، والجزر الصغيرة السرية بداخلنا نهرب إليها كلما اختنقت أرواحنا اغترابا أو يأسا...

الحياة لا تطاق بغير الحب، كل من ماتوا بإرادتهم لم يجدوا الحب، لم يعيشوا حياة تليق بإنسان متعب، لم يعيشوا قصة حب رومانسية، لم يجدوا من يشاركهم الأحاديث أو يستمع إلی الموسيقی التي يحبونها، ولم يبكوا في منتصف الليل علی صدر من يقبل انطفاءهم وحزنهم العميق، لم يشاهدوا الأفلام السينمائية مع أحبتهم، ولم يجدوا من يشاركهم السير في طريق هادئ في أجواء ديسمبر الرائعة، من ماتوا لم يتبادلوا القبلات، ولم يتشاركوا الأسرار والخوف مع أحد، ولم يبوحوا بكل ما بداخلهم لأحبتهم!

طعم الحياة المُر تُخفف مرارته بالحب، الشعور بالأمان، بقاء من يرتاح قلبنا معهم، واستمرار العمر دون خوف من فقدان شعور الحياة ونحن علی قيدها.

أرفع رأسي لأطلب من النادل كوب قهوة، فيتناهى لمسامعي هذه المرة صوت الشاب خالد في الأغنية الموالية "روحي يا وهران". أسمع هذه الأغنية لسنوات عديدة، ولكن للمرة الأولى أتأمل كلماتها بطريقة مختلفة في شجون صوته وهو يخاطب مدينته التي مزقها الخوف والعشرية السوداء بألم وحسرة وهو يودعها: "روحي يا وهران بالسلامة القلب اللي كان يبغيك أنا نكويه". ألم وحسرة، رجل كان على الأرجح يرغب في الاستمرار في العيش في وطنه، لكن كل هذه الظروف تدفعه لمغادرة كل شيء، حتى حبيبته التي يخاطبها في آخر الأغنية بأسف وقلب مثقل: "آش حال نحبك انتي يا بنيّة؟". كيف بحق الجحيم لم أفهم طيلة هاته السنين أنه ربما أراد القول: "كيف أنظر في عينيك وأنا غير قادر على حمايتك؟ أية وعود وانتظارات يمكن أن تحل بيننا وسط هذا الرعب والموت؟" حتى يصل إلى القول تأكيدا "إذا طاح الليل أنا نخاف عليك"...

عدت لكتابي وصوت ما سحيق بداخلي يردد: "عشر دقائق، عشر دقائق بحق الجحيم كفيلة مع الموسيقى لتجعلك تتأمل حول الحب والحياة وما بينهما"، ربما لم يكن مجرد محض صدفة أن يعطي الإغريق القدامى جانبا ميثولوجيا لقصة خلق الموسيقى. إنه بلا شك ضرب من العبقرية أن يرجعوا خلقها للآلهة لا البشر.

أتاني صوت صديقتي ليلى قادما من بعيد:

- أهلا "مون"... آسفة على التأخير...

لأرفع رأسي وأقف تأهبا لتحيتها:

- لا بأس، لحسن الحظ أني تدربت على عدم انتظار شيء أو أحد.

تعليقات