📁 آخر الأخبار

أسفل عمود الكهرباء | قصة: فوز أبو سنينة

أسفل عمود الكهرباء | قصة: فوز أبو سنينة
 

فوز أبو سنينة | إيطاليا 

يقولون عنه بأنه مجنون، محبط، مكتئب، جار عليه الزمان، فقضم عقله وأكل أحاسيسه، حتى لم يبقَ لديه شيء منها سوى سجائره التي يشربها بنشوة الحب، ودوائه الذي يخدره، يخدر حواسه وقلبه حتى تعلو وجهه نظرة متحجرة. خاوية. فارغة من كل شيء.   

لا أحد يعرفه مثلي. اعتزله الناس، بل كان هو من اعتزل عالمهم الذي لم يجد له مكاناً فيه.. لكن أنا أبقى معه كل يوم منذ الصباح، منذ أن يزيح الستار عن النافذة في غرفته ويفلّي الناس المارّين أمامه كما تفعل غوريلا مع أجساد أطفالها أمام الزوار في حديقة حيوان. لا أحد يشعر به، أو بوجوده الواجم. ولا أحد يراه في وقفته المعزولة، وكأنه لوح زجاج شفاف تمر عبره الحياة شعاعاً دون أن يشعر. هو دائماً وحيدٌ، مهزوزٌ، يخاف من دقات قلبه الذي يمنحه معيشة يراها هو ميتة. يعصب عينيه بهذا الخوف ويغلقها على أيام ممتدة أمامه؛ فارغة، صعبة، طويلة، لا تبدأ ولا تنتهي.

 كان إذا خرج إلى الشارع، يخاف من خيال يبرز له على الأرض، يركض هلعاً، ثم يضحك مقهقهاً إذا لم يعد يراه، وكأنه نجح في الهروب من نفسه. لكنه لا يلبث أن يصطدم بهتاف أولاد الحي وشبابه: "مجنون. مجنون". فيفرّ إلى منزله كالهارب من لهب النار التي تبقي رمادها عالقاً في قلبه.    

يبدو هادئاً هذا المساء. لم يخرج منذ أيام، وكأنه قد قاطع العالم الخارجي أخيراً، أسمعه في حدة وحدته يهذي، أو ربما كنت أنا الذي أهذي أمامه، وأمام وجعه الذي يطل عليّ من بريق عينيه الباهت، يصلني صوته خافتاً، أميل نحو نافذته الكبيرة بجسدي لأسمعه بشكل أفضل:

-        أنا قادم.. أنا حر.. أنا قادم

أرمش مرات عديدة لأحذّره من الاقتراب أكثر من حافة النافذة. لا ينتبه لي أو لوميض ضوئي الذي يطرف له، فأقرر أن أتقمص دور رجال شرطة الإنقاذ الذين أراهم أحياناً على شاشة التلفاز، من خلال نافذة الجيران المفتوحة على المساء في المنزل المقابل لمنزله. أناديه بنبرة بوليسية اخترعتها على عجل:

-        بست.. يا هذا!

يتلفّت حوله بوجل مغرور، لا يجد أحداً في الليل، فيصاب بالارتباك.  يُحدّث نفسه ويقترب أكثر من طرف النافذة.

-        هيه.. أنت.. يا أنت ابتعد عن الحافة.. ستقع!

يتلفتُ مرة أخرى خائفاً، إذ ليس هناك ما هو أكثر رعباً من صوتٍ دون وجه، يضعنا في مواجهة مع أنفسنا، حتى لا نراها وحتى لا تنصب العراقيل أمام خططنا المجنونة..

-        ليس هناك ما يستدعي الهروب من هذا العالم. دعني أساعدك، أنا أعرفك رغم أنك لا تعرفني، أو ربما كنت تعرفني دون أن تدري بمعرفتك هذه لي، فأنا أمامك كل يوم وكل ليلة، وأرافقك في سهرك ونومك، غير أن وجودي ربما يكون عادياً جداً وليس له قيمة عند البشر.  

يأخذ نفساً عميقاً من سيجارته وكأنها الأخيرة التي يحصل عليها ليحقق أمنية سجين محكوم بالإعدام، ثم ينفخ دخانها في هواء المساء الثقيل فتصلني الدخنة النخرة. أسعل ويسعل بالعدوى هو أيضاً، ويستسلم للحوار الذي فُرض عليه دون أن يرى محاوره ويقول:

-        أنت مثلي إذن. لكني قد قررت أن أتحرر منهم ومن نظراتهم. إذ لم تعد نفسي تخاف من العتمة، لم تعد تخاف من الوحدة والظلمة والتعب، لم أعد أنسَ أن أستيقظ أو أتوق إلى النوم.. إذ إن الحياة أخيراً قد صارت أمامي صفحة بيضاء تنتظر أن أفرغ عليها من ألوان قلبي ما يجعل الشمس تزداد بريقاً، والسهل يزداد اخضراراً، والنهر يتراقص مع الأوراق القافزة في غطسة تودع فيها آخر أيام الصيف.

لم أفهم كلماته المبعثرة هذه، فلا سهل أخضر يجلس أمامه ولا نهر طويل يمر بين الأزقة التي تحيط بنا، لكن، وبحكم دوري البوليسي، كان لا بد لي أن أبقي على دوران عجلة الحوار بيننا فقلت:

-        وصف جميل حقاً! لديك موهبة مع الكلمات. ما رأيك أن نكمل حديثنا وأنت على مسافة أمان مني؟ أنا أسعل، يبدو أنني مريض ولا أريد لك أن تمرض أنت أيضاً.

لم يأخذ كلامي على محمل الجد. إذ كيف له أن يبتعد عني وهو لا يعرفني؟ اقترب أكثر من حافة النافذة وتابع:

-        أتدري؟ لم أعد أرتعد من الناس أو من المجهول، ولم تعد تتسلل الكآبة إلى أوصالي فتحرمني من الفرح، لأنه قد صار لي بين دفات الحلم مغامرات، وقلبي صار قارب ورق ذهبي يسبح فوق صفحة البحر الأزرق المحمر ساعة الغسق.

-        قارب وبحر وغسق! يا رب أعنّي فلم أفهم شيئاً، همستُ لنفسي. ثم رفعتُ صوتي إليه بالثناء:

-        ما أجمل كلامك! هل فكرت بأن تصبح كاتباً يوماً؟

-        وماذا أكتب يا ترى؟ أحلامي؟

-        أحلامك، مغامراتك، كل ما تريد وأنا سأكون أول من يستمع لما تكتب. الكتابة هي علاج الكآبة، حتى أحرفهما متشابهة. لكن عليك أولاً أن تعود إلى الوراء بضع خطوات وتجلس فوق ذلك المكتب الخشبي الذي أراه في الخلف في آخر الغرفة، يبدو محمساً للكتابة حقاً.

لم يلتفت إلى الوراء ولم يتراجع بخطواته كما توقعت، بل ظل يمعن النظر في نقطة بعيدة في السماء المزينة بالنجوم. حاولت معه مجدداً وأنا أرى نظرته الشاردة تلك فترتعد منها أسلاكي:

-        أتدري شيئاً؟ تبدو لي بحالة أفضل، أراك هادئاً وفرحاً، لا أدوية تغيبك نصف النهار، ولا صراخ، لا نحيب ولا ضربات يد منهكة على الرأس لتطرد منه شرور الأفكار. هذه أعراض امتهان الكلمات وأنا سعيد لأجلك.

-        لا، بل هذا لأنني لم أعد أخاف من العتمة، أو من نفسي أو حتى من الأيام. قالها ساهماً. 

-        هل أخذت حبوب الدواء اليوم؟ قاطعته بخوف إذ إنه قد بات قريباً جداً من النافذة، ها هو يجلس على حافتها!

-        لا حاجة لي للدواء، أنا ذاهب بعيداً، هناك. قلتُ لك بأنني لم أعد أخاف من العتمة.

في الحقيقة كلامه بات يخيفني أنا، فصرخت خارجاً عن طوري وعن دوري:  

-        يا مجنون انتبه! ماذا تفعل؟ ابتعد عن هذه النافذة اللعينة. كل ما تقوله هراء، كذب، صوت غيبوبة محمومة، وإلا ففسر لي لو سمحت، لماذا عندما لم تعد تخاف من العتمة تعتلي حافة النافذة وتريد أن ترمي بنفسك في حضني حيث يغطي الضوء ظلي وظل من يمر بي، ها؟

-        لا تقل مجنون. لا تقل مجنون. زعق بحزم مجروح أخرسني وهو يضع كفيه على أذنيه ليحتمي من أذى الكلمات ثم أكمل:

-        أنا لست مجنوناً. لن أرمي بنفسي، أنا فقط سأطير إلى هناك. وأشار بيده إلى السماء.

وتّرتني لهجته ونظرته وكلام الضياع الخائن الذي يخرج من فمه، سألته بقلق:

-        هناك أين؟ أين؟ انتبه! أنت تحكم على نفسك بالعتمة الأبدية يا صاحبي. إذا كنت تعتبر الخلاص هو النور، فيمكنك أن تعبر إليه من باب اعتزال الناس وهذه الإنسانية المزيفة. إذا كان الأمر كذلك، سنجد لك مخرجاً آخر. دعنا نفكر معاً. أو لننتظر الشمس. لنأخذ رأي الشمس مثلاً فالأفكار تكون أوضح بحضور الشمس.

-        نعم الشمس. هناك، لن يناديني أحد مجنوناً مرة أخرى، لن أحتاج أدوية لأنام بعد اليوم. نعم دعنا نذهب إلى الشمس. أنا تعبت. تعبتُ مني.

لبس البكاء صوته، دلّى قدميه خارج إطار النافذة ولم ينظر إلى الأسفل، إذ كان نظره محنطاً باتجاه شمس غائبة في الأفق ونور لا نراه.

-        انتظر أرجوك. عد إلى الوراء. أرجوك، دعني أحدثك قليلاً وسترى، سيكون كل شيء على ما يرام.

صرخت يائساً خائفاً، لكنه لم يستمع لما أقوله، وقرر بغتة أن يرمي نفسه عند قدمي النحيلة. 

ذهب تقمصي لدور الشرطي الحذق إلى جحيم الفشل، آلمني تأنيب الضمير وأنا أسمع ارتطام رأسه على الاسفلت تحتي وكأنها نهاية العالم، وربما كانت كذلك بالفعل. ارتعدتْ له الأرض وتزلزلتْ بذبذبات جلبت إلى النوافذ المؤصدة عيوناً من الدهشة والفضول والتساؤلات المتأخرة.

اتخذت قراري بغضب، سأطفئ روحي لأضفي قدسية على هذا الجسد المسجّى، والذي تستخرج منه الأرض بتعسف دماً يفوح برائحة العقاقير والمهدئات ومضادات الاكتئاب، تماماً كما كانت تستخرج منه الدنيا بتعسف أكبر روحاً متعبة من متاعها اليومية. قررتُ وسأبدأ بالتنفيذ. سأنزل الظلام على هذه البقعة من الشارع، فوحدها العتمة القسرية تليق بالموت الذي يهبط على جسد كان مجبراً على الفناء، في ظل حياة لا نكهة لها تميزها ولا لون يرسم ملامحها ولا رائحة تفوح في ربيع وجودها.

وعندما حل الصباح، استيقظ سكان حي صغير في مكان ما من هذا العالم فزعاً على جثة جارهم "المجنون" ملقاة بفوضى قفزة عبثية، أسفل عمود الكهرباء الذي انطفئ نوره دون رجعة.         

 

تعليقات