📁 آخر الأخبار

الحداثة الأدبية: من التمرد الشعري إلى سؤال المعنى (دراسة نقدية في السياقات والتحولات والمآلات) | حسن امحيل

الحداثة الأدبية: من التمرد الشعري إلى سؤال المعنى (دراسة نقدية في السياقات والتحولات والمآلات) | حسن امحيل

§      حسن امحيل | المغرب

1. لماذا الحداثة؟ حين لم تعد الكلمات تكفي

عندما توقفت الكلمات عن التعبير، وعندما صار الواقع أكثر تعقيدًا من أن يُروى بأساليب مألوفة، ظهرت الحداثة في الأدب كضرورة لا كخيار. لم تكن ترفًا لغويًا أو تجربة فنية منعزلة، بل استجابة حادة لانهيارات كبرى هزّت تصورات الإنسان عن نفسه والعالم.

في بدايات القرن العشرين، لم تعد الرواية الكلاسيكية قادرة على احتواء الفوضى الناتجة عن الحرب العالمية الأولى، ولا كان الشعر العمودي قادرًا على نقل الإحساس بالضياع واللاجدوى الذي غمر الوعي الأوروبي. العالم تغيّر، واللغة القديمة لم تعد صالحة لتوصيفه.

في هذا السياق، وُلدت الحداثة بوصفها موقفًا جذريًا من اللغة والمعنى. إنها تشكيك في المُسلَّمات، ورفض للقوالب الجاهزة، وسعي لإيجاد لغة جديدة تعبر عن التمزق الداخلي والقلق الوجودي. لم يعد الشاعر يتغنى بالجمال أو يمدح السلطان، بل صار يكتب عن العدم، عن الغربة، عن الذات المتصدعة. ولم يعد الروائي يروي من موقع العارف، بل يترك شخوصه يتكلمون بقلق وتردد، في زمن مفكك لا بداية له ولا نهاية.

الحداثة، بهذا المعنى، هي تمرين دائم على الشك، وبحث لا ينتهي عن أصوات جديدة. إنها لحظة وعي بأن العالم لم يعد كما كان، وأن اللغة، إن لم تتغير، ستصير عائقًا لا أداة. لهذا، كانت الحداثة صدمة، وربما كانت ضرورة. لقد جاءت حين لم تعد الكلمات تكفي.

2. حين تحطمت القصيدة: جذور الحداثة في الأدب الغربي

القرن العشرون لم يبدأ أدبيًا بصوت ناعم أو قصيدة تقليدية، بل بصوت مكسور، وجملة مفككة، وصورة تنقل الصدمة لا الانسجام. هناك، في الغرب، كانت الحداثة الأدبية وليدة خراب حقيقي: انهيار الإمبراطوريات، صدمة الحرب، وسقوط الثقة في الإنسان بوصفه مركزًا للكون. لذلك، فإن شعراء وروائيي الحداثة لم يغيروا فقط شكل النص، بل قلبوا وظيفة الأدب نفسه.

في الشعر، جاءت "الأرض الخراب" (1922) لـ تي. إس. إليوت بوصفها بيانًا حداثيًا صارخًا. لم تكن قصيدة موحدة الإيقاع أو المعنى، بل فسيفساء من الصور، والأصوات، واللغات. تنقّل إليوت بين الأسطورة الإغريقية، والنصوص الدينية، والأغاني الشعبية، ليبني عالمًا شعريًا يعكس عالمًا محطمًا. القصيدة لا تشرح، بل تعكس التمزق. لا تُسلي، بل تضع القارئ في قلب العبث.

أما في الرواية، فقد غيّر جيمس جويس قواعد اللعبة تمامًا. في روايته "يوليسيس" (1922)، استبدل الحبكة التقليدية بتقنية تيار الوعي، حيث تغدو الرواية رحلة داخل دماغ الشخصية أكثر من كونها رحلة عبر أحداث. الزمن يتفكك، اللغة تتشظى، والسرد يتعدد بتعدد وجهات النظر. القراءة لم تعد سهلة، لكن ذلك لم يكن خللًا، بل مقصودًا: لأن الواقع نفسه لم يعد سهل الفهم.

وبين الشعر والسرد، وقف فرانز كافكا[1] وحيدًا، كمن يكتب من هوة سحيقة. في روايته "المحاكمة"، يبدو الإنسان محاصرًا في نظام بيروقراطي لا يرحم، يتهمه بلا سبب، ويحاسبه بلا قانون. كافكا لم يقدّم بطلًا ولا نهاية منطقية، بل صور الإنسان الحديث ككائن مغترب، عاجز، لا يعرف لماذا يُعاقب ولا كيف ينجو. هذه الرؤية العبثية أصبحت لاحقًا حجر أساس فيما عُرف بأدب اللامعقول.

من ناحية الشكل، كانت هذه الأعمال صادمة. لم يكن هناك وزن شعري تقليدي، ولا بنية سردية كلاسيكية. لكن الأهم من الشكل، هو الروح التي حملتها: روح الشك، والانكسار، والمساءلة. الحداثة هنا لم تكن تحطيمًا لمجرد التحطيم، بل كانت محاولة للعثور على لغة جديدة وسط عالم يتداعى.

وهكذا، أصبحت الحداثة في الغرب مرآة للعصر، لا زينته. كتب الأدباء لا ليشرحوا العالم، بل ليُظهروا استحالته. الكتابة صارت مواجهة، وتجربة، وتفكيكًا دائمًا للمفاهيم السائدة.

إن ما فعله إليوت وجويس وكافكا لم يكن فقط تمرينًا لغويًا، بل كان ثورة في المفهوم كله: ما الأدب؟ ومن يكتبه؟ ولمن؟

أسئلة ما زالت تُطرح حتى اليوم.

3. الأدب يُعلن العصيان: قطيعة مع المعنى التقليدي

حين ظهرت الحداثة، لم تكن المشكلة فقط في الشكل، بل في المعنى ذاته. لم تعد اللغة وسيلة لتوصيل الحقيقة، بل غدت أداة للكشف عن تمزقها. فالمعاني التي بدت واضحة وبديهية لقرون، مثل "الخير"، "الجمال"، "الحق"، فقدت يقينها. الشعر لم يعد غنائيًا ولا تعليميًا، والرواية لم تعد تُكتب بقلم العارف الحكيم. الحداثة قطعت مع المفهوم التقليدي للأدب بوصفه مرآة للواقع، أو وسيلة للإقناع، أو حتى رسالة.

هذا التمرد لم يكن عبثًا، بل نابعًا من إحساس حاد بأن الواقع قد تغيّر، وأن اللغة القديمة، ببلاغتها ورموزها المستقرة، صارت عاجزة عن وصفه. هكذا بدأ الشعراء والروائيون الحداثيون يبحثون عن طريقة جديدة للكتابة، تُجسّد قلق الإنسان، وتستوعب شظايا وعيه.

في الشعر، لم يعد الوزن شرطًا، ولا القافية معيارًا. ظهرت قصيدة التفعيلة أولًا، ثم قصيدة النثر. لكن الأهم من الشكل كان الموقف. فالقصيدة الحديثة لم تعد تحتفي بالوضوح، بل بالغموض المقصود. صارت الصورة الشعرية تتكئ على الرمزية، والتلميح، والانقطاع الدلالي، بحيث يصبح النص نفسه "لغزًا" يتطلب شريكًا قارئًا يشارك في إنتاج معناه.

لنأخذ قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب[2] كمثال. القصيدة محمّلة بالرموز: المطر لا يعني فقط المطر، بل الحياة، الثورة، وحتى الفداء. العراق الممزق حاضر بقوة، لكن دون خطاب مباشر. اللغة مشحونة، الصور متراكبة، والإيقاع حر. إنها قصيدة لا يمكن اختصارها في فكرة واحدة، بل تتفتح على احتمالات تأويل متعددة. هذا التعدد هو جوهر الحداثة.

أما في الرواية، فقد ظهرت تقنيات مثل تيار الوعي، وتعدد الأصوات، والتلاعب بالزمن، واللاخطية في السرد. كل هذه العناصر لم تكن مجرد أدوات فنية، بل تجليات لرفض بنية الواقع المستقرة. لم يعد الراوي يعرف كل شيء، ولم تعد الشخصيات تتحرك بدافع سببي واضح. العالم صار مفككًا، والهوية غير مستقرة، والنص الأدبي انعكاس لذلك.

مثال لافت على هذا التوجه هو رواية "الغثيان" لجان بول سارتر، التي تُكتب بضمير المتكلم، وتعبّر عن شعور بطولي بالعبث والفراغ. لا أحداث كبيرة، بل وعي متضخم بالتفاهة، وبلا جدوى الحياة. هذا الشعور لم يكن مرضًا نفسيًا، بل موقفًا فلسفيًا من العالم. واللغة في الرواية تعكس ذلك: حادة، مترددة، غير مستقرة.

كذلك، رواية "اللعبة الأخيرة" للكاتب الإسباني خوان خوسيه مياس تُظهر كيف تتحول اللغة نفسها إلى بطل. كل شيء في الرواية مشكوك فيه: الشخصيات، الأحداث، حتى القارئ. النص يفضح بناءه، يضعك في تجربة قرائية مربكة، لكنها كاشفة.

الحداثة هنا تعني أن المعنى لم يعد معطى، بل يُصنع. وأن الكاتب لم يعد "نبيًا"، بل باحثًا قلقًا. والمعنى ليس موجودًا في العالم، بل في اللغة التي تكتبه. لذلك، سعى الأدباء الحداثيون إلى خلق لغة تكشف لا تصف، تُربك لا تشرح، تضع القارئ في مواجهة أسئلته لا تجيبه.

وهكذا، انقلب مفهوم الأدب من أداة لنقل المعنى إلى فضاء لتفكيكه. والقراءة، بدل أن تكون عملية تلقٍ سلبي، أصبحت مشاركة فاعلة في توليد الدلالة. لقد تحوّل النص من كونه "نافذة" تطل على الواقع، إلى "مرآة" تعكس تفكك الذات والعالم.

في هذا المناخ، لم يعد الأدب مجرد وسيلة للتعبير، بل تجربة فكرية وجمالية قائمة على الانقطاع، والدهشة، والتجريب المستمر. لقد أعلن الأدب عصيانه، واختار ألا يكون واضحًا، حتى يكون صادقًا.

الحداثة الأدبية: من التمرد الشعري إلى سؤال المعنى (دراسة نقدية في السياقات والتحولات والمآلات) | حسن امحيل


4. هل تأخّرنا عن الحداثة؟ لحظة الانفجار في الأدب العربي

في حين كانت الحداثة الأدبية في أوروبا نتيجة مباشرة لأحداث كبرى مثل الحروب والثورات الصناعية والتحولات الفلسفية، فإن دخولها إلى الأدب العربي لم يكن وليد البيئة نفسها. لم يكن عند العرب انقلاب وجودي مفاجئ، بل جاء التحديث محمَّلاً من الخارج، محمَّلًا بأسئلة لم تُصغ بعد محليًا. لهذا بدا دخول الحداثة إلى الأدب العربي مرتبكًا في البداية: بين من يرى فيها تحررًا إبداعيًا، ومن يراها قطيعة مع الهوية.

الستينيات من القرن العشرين كانت لحظة التحول الكبرى. جاءت بعد نكسة 1967، ومع صعود المد القومي ثم أفوله، لتكشف عن أزمة عميقة في الذات العربية. حينها بدأ الجيل الجديد من الشعراء والروائيين يشعر بأن اللغة التقليدية لم تعد قادرة على التعبير عن الخيبة والانكسار. فظهر ما يمكن تسميته بـ"الانفجار الحداثي"، لا بوصفه تقليدًا أعمى للغرب، بل محاولة لقول ما لم يُقل.

في الشعر، كانت تجربة أدونيس[3] من أكثر التجارب جرأة. لم يكن مجرد شاعر يجرب الإيقاع والصورة، بل كان منظّرًا للحداثة، يرى أن الشعر يجب أن يهدم قبل أن يبني. في مجموعته "أغاني مهيار الدمشقي"، تظهر شخصية مهيار كرمز للشاعر المتمرّد، الباحث عن المعنى في ركام الأسطورة واللغة الموروثة. لم يعد الشعر عنده تمجيدًا للماضي، بل صراعًا معه.

في مقابل أدونيس، نجد محمد الماغوط وقد اختار شكلًا آخر للحداثة، أقرب إلى التمرد الساخر. في ديوانه "حزن في ضوء القمر"، كتب بلغة بسيطة، لكن مشحونة بالسخرية والمرارة. لا استعارات معقدة، بل جمل حادة ومباشرة، تصف وجع الإنسان العربي وهو يركض وراء خبزه وحريته.

أما في العراق، فقد كانت تجربة سعدي يوسف علامة فارقة. مزج بين الالتزام السياسي والرؤية الحداثية، فكتب قصائد تبدو واقعية، لكنها تنطوي على عمق رمزي. قصيدته "العراق في القلب" مثال على قدرة الشعر على قول السياسي دون خطابية، وعلى حمل همّ الوطن بلغة متجددة.

وفي الرواية، كانت الحداثة تتجلى بوضوح في أعمال عبد الرحمن منيف، خاصة في خماسيته "مدن الملح". لم تكن مجرد روايات عن الخليج، بل تفكيك شامل لآليات السلطة والحداثة الشكلية. استخدم فيها السرد المفكك، وتعدد الشخصيات، واللغة المتنوعة، ليخلق عالماً يتحدث عن التغير القسري وكيف ينتج الغربة.

كذلك نجد جمال الغيطاني[4]، الذي كتب برؤية حداثية متأصلة في التراث. روايته "الزيني بركات" مثال على ذلك، حيث استخدم تقنية التناص مع المخطوطات القديمة، ليكشف عن بنية القمع والاستبداد في الحاضر من خلال الماضي. إنها حداثة لا تنكر التراث، بل تعيد قراءته.

حتى الأدب الفلسطيني، رغم طابعه المقاوم، لم يكن بعيدًا عن الحداثة. إميل حبيبي في روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، كتب بأسلوب ساخر ومركب، يمزج الكوميديا السوداء بالرمزية السياسية، في نص يصعب تصنيفه بسهولة. إنه عمل حداثي بامتياز، يحفر في الواقع بمشرط المفارقة.

الحداثة العربية لم تكن نسخًا من الحداثة الغربية، بل تفاعلًا مع واقع مختلف. كل كاتب حداثي عربي واجه سؤال الهوية بطريقته: بين من هدم التراث كليًا، ومن أعاد تركيبه، ومن اكتفى بالسخرية منه. الأهم أن لحظة الحداثة كانت لحظة وعي بأن الشكل القديم لم يعد كافيًا، وأن المعنى يحتاج إلى لغة جديدة، وصوت مختلف.

في هذه المرحلة، لم يعد الأدب مجرد أداة ثقافية، بل صار ساحة لصراع الهويات، واللغات، والمواقف. الحداثة لم توحّد التجربة العربية، لكنها جعلتها أكثر صدقًا، وأكثر جرأة في الاعتراف بالتناقض والخذلان. ولهذا، رغم كل الخلاف حولها، تبقى الحداثة نقطة التحول الأهم في تاريخ الأدب العربي الحديث.

5. السياب وأدونيس: عندما تغيّر إيقاع القصيدة العربية

لم يكن تحوّل الشعر العربي نحو الحداثة وليد قرار فردي أو مفاجأة أسلوبية. لقد جاء نتيجة تراكمات داخلية وضغوط خارجية، فرضت نفسها على اللغة والوعي معًا. في منتصف القرن العشرين، بدأ الإيقاع الشعري العربي يختل، لا بسبب ضعف في الموسيقى، بل لأن الحياة ذاتها فقدت انسجامها القديم. في هذا السياق، لم يعد منطق القصيدة العمودية كافيًا للتعبير عن التحولات السياسية والوجدانية والاجتماعية التي ضربت المجتمعات العربية. هكذا، بدأ الشعر العربي الحديث يغيّر صوته، لغته، وصورته، وكانت نقطة التحوّل الأبرز متمثلة في تجربتين: بدر شاكر السياب وأدونيس.

السياب: من القصيدة الكلاسيكية إلى المطر السياسي

بدر شاكر السياب (1926–1964) يُعدّ من أوائل من خرجوا بالشعر العربي من قيود القصيدة العمودية الصارمة، دون أن يتخلّى كليًا عن الوزن. كتب قصيدة التفعيلة لا بوصفها كسرًا لقواعد الشعر، بل بوصفها استجابة وجدانية لحاجة ملحة في التعبير. في ديوانه الأشهر "أنشودة المطر"، تبرز الحداثة بوصفها انصهارًا بين الرمزي والسياسي، بين الذاتي والجمعي.

تبدأ القصيدة بصور طبيعية مألوفة، ثم تتصاعد نحو بعد أسطوري، يحمل المطر دلالة مزدوجة: فهو رمز للخصب والتجدد، لكنه في الآن نفسه ينطوي على ألم الانتظار والخذلان. القصيدة لا تعلن موقفًا سياسيًا بشكل مباشر، لكنها مشبعة بإحساس عميق بالخذلان القومي، والحنين إلى خلاص جماعي.

استخدم السياب رموزًا من الموروث الديني والأسطوري، وخلق إيقاعًا جديدًا لا يعتمد على الوزن الخليلي الصارم، بل على وحدة إيقاعية مرنة، تحاكي النفس الداخلية وتوترها. فقصيدته لم تكن ثورة ضد الشكل فقط، بل ضد المفهوم السطحي للجمال، وضد الدور التقليدي للشاعر كمادح أو راوٍ.

أدونيس: هدم الأساس وبناء المعنى من الركام

إذا كان السياب قد مهّد الطريق، فإن أدونيس (علي أحمد سعيد) مضى به إلى مداه الأقصى. لم يكن مشروعه مشروع شاعر فحسب، بل مفكر نقدي أراد أن يعيد بناء القصيدة العربية من الأساس. أدونيس رأى أن أزمة الشعر العربي تكمن في بنيته الفكرية قبل الشكلية، أي في خضوعه الطويل للسلطة، سواء أكانت سياسية أو دينية أو لغوية.

في مجموعته "أغاني مهيار الدمشقي"، يظهر الشاعر في هيئة "مهيار"، وهو اسم رمزي يشير إلى الانفجار الداخلي. هنا، يكتب أدونيس نصًا مفتوحًا، لا يلتزم وزناً ولا قافية، ويستخدم الصور الصوفية، والأقنعة الأسطورية، واللغة الرمزية الكثيفة ليقول ما لا يمكن قوله باللغة المباشرة. مهيار ليس فقط شخصية شعرية، بل رمز للشاعر الحداثي الذي يعيش مأزق الوجود والمعنى.

قصيدة أدونيس ليست خطابًا ولا رواية مشاعر، بل بناء لغوي معقّد، يضع القارئ أمام تحدٍ فكري. استخدامه للأسطورة، للرموز القديمة، للغموض المقصود، ليس رغبة في التعقيد، بل استراتيجية لكسر التلقّي السهل، ولإجبار القارئ على أن يُنتج المعنى بنفسه.

الفرق بين المشروعين: حداثة التجديد وحداثة القطيعة

رغم التقاء السياب وأدونيس في البحث عن صوت شعري جديد، فإن بينهما فرقًا جوهريًا. السياب كان يسعى إلى تجديد الشعر من داخله، عبر تطويع الوزن وإثراء الصورة، دون أن يقطع صلته كليًا بالتراث العربي الشعري. أما أدونيس، فقد اختار مسار الهدم وإعادة البناء، معتبرًا أن التراث نفسه جزء من الأزمة، وأن اللغة العربية تحتاج إلى "انقلاب معرفي" لا مجرد تحديث فني.

في هذا السياق، تبدو تجربة أدونيس أكثر راديكالية، بينما تظل تجربة السياب أكثر تصالحًا مع البيئة الثقافية العامة، ما يفسّر جماهيريته الواسعة مقارنة بخصومة أدونيس مع الذائقة العامة.

تجارب موازية: صوت الحداثة يتعدد

لم يكن السياب وأدونيس وحدهما في ساحة التجديد. فقد ظهرت أصوات حداثية مهمة، كل منها حمل الحداثة بطريقة مختلفة:

صلاح عبد الصبور، في مصر، كتب قصائد مسرحية مثل "مأساة الحلاج" تمزج بين الشعري والفلسفي، وتتناول الأسئلة الوجودية الكبرى في سياق عربي صوفي.

أمل دنقل، جمع بين التفعيلة والرمز السياسي، وكتب بلغة مشحونة بالمرارة والغضب، كما في قصيدته "لا تصالح".

خليل حاوي، من لبنان، عبّر عن الانهيار القومي من خلال لغة مأسوية، كما في قصيدته "نهر الرماد".

كل هذه الأصوات، رغم اختلافها، كانت تشارك في تشييد الحداثة العربية من زوايا متعددة: السياسي، الصوفي، التراجيدي، الساخر. لم تكن الحداثة تيارًا موحدًا، بل طيفًا من التجارب التي تقاطعت عند فكرة واحدة: لم تعد القصيدة العربية القديمة قادرة على التعبير عن هذا الزمن.

عندما غيّرت القصيدة دورها

القصيدة العربية في زمن الحداثة لم تعد وسيلة للطرب أو التجميل، بل صارت أداة للمواجهة والقلق والتساؤل. الشعراء الذين قادوا هذا التحول لم يكتبوا فقط بشكل جديد، بل فكروا بطريقة جديدة. الحداثة الشعرية كانت في جوهرها إعلانًا بأن الإيقاع وحده لا يكفي، وأن المعنى لا يُمنح جاهزًا، بل يُنتزع من لغة لم تعد بريئة.السياب وأدونيس، رغم اختلاف المسار، جمعتهما الرغبة في كتابة قصيدة تليق بعصرها. قصيدة لا تردد ما قيل، بل تصنع ما لم يُقل. وهذا بالضبط ما يجعل الحداثة الشعرية لحظة حاسمة في تاريخ الأدب العربي الحديث.

6. منيف وكنفاني: الرواية تصير سؤالاً لا إجابة

إذا كانت القصيدة قد واجهت التغيير أوّلاً، فإن الرواية العربية سرعان ما لحقت بها، لا بتغيير الشكل وحده، بل بتغيير وظيفتها أيضًا. فالرواية الكلاسيكية، التي كانت تسير على نسق “بداية – وسط – نهاية”، وتقدم شخوصًا واضحة وحبكات منطقية، بدأت تتصدّع أمام واقع عربي بات أكثر تعقيدًا من أن يُروى بهذه البساطة. الحداثة في الرواية العربية لم تكن مجرّد تقليد للتجريب الغربي، بل استجابة محلية صادقة لأزمات الواقع، وسعيًا نحو لغة سردية تتسع للشك والانكسار والانشطار النفسي والمعرفي.

في طليعة من عبّر عن هذا التحول يأتي اسمان لامعان: عبد الرحمن منيف وغسان كنفاني. رغم اختلاف الأرضية الفكرية والموضوعات، فإن كليهما استخدم الرواية لا ليحكي فقط، بل ليسائل، ويزعزع، ويعيد ترتيب العلاقة بين القارئ والنص.

عبد الرحمن منيف: الرواية كساحة لكشف السلطة

عندما كتب عبد الرحمن منيف (1933–2004) خماسيته الشهيرة "مدن الملح"، لم يكن يسرد فقط تاريخ تحوّل الخليج من مجتمعات بسيطة إلى دول نفطية، بل كان يفضح الحداثة الزائفة التي فُرضت من الخارج، وكيف انبنت على سلطة قمعية، واقتصاد ريعي، وانسلاخ تدريجي عن الإنسان والمكان.

الرواية بتكوينها المتعدد الشخصيات، والزمن المشتبك، والسرد المفكك، قدّمت صورة بانورامية للتحولات الكارثية. لم يكن هناك "بطل" بالمعنى الكلاسيكي، بل مجتمع بأكمله يُروى من زوايا عدة. كما أن منيف لم يمنح قارئه راحة السرد التقليدي، بل دفعه إلى التورط في تركيب الحكاية، والتفكير فيما وراء الكلمات.

في "مدن الملح"، اللغة نفسها تغيرت. لم تعد تلك اللغة المنمقة التي تبحث عن الجمال، بل صارت لغة توثيق وتحليل وشهادة، لكنها ظلت محتفظة بطاقتها السردية المشوّقة. إن مشروع منيف الروائي هو تفكيك لبنية الاستبداد من خلال أدوات السرد، أي أن الرواية لم تعد مرآة للواقع فقط، بل مشرطًا لتحليله.

غسان كنفاني: سرد المقاومة وأسئلة الوجود

على الضفة الأخرى، كتب غسان كنفاني (1936–1972) رواياته في سياق القضية الفلسطينية، لكنه لم يكتب أدبًا مباشرًا أو شعاراتيًا، بل اشتغل على تعقيد الإنسان الفلسطيني في لحظة التشظي. روايته الأشهر "رجال في الشمس"[5] (1963) ليست فقط عن لاجئين يهربون من البؤس إلى الكويت، بل عن العجز الجمعي، والخذلان، والتواطؤ الصامت.

الرواية تنتهي على مشهد الموت داخل صهريج مغلق، دون أي خطاب أو تبرير. هذه النهاية الصادمة والمفتوحة، حيث يسأل السائق: "لماذا لم يدقّوا الجدران؟"، ليست مجرد صيحة غضب، بل سؤال سياسي وأخلاقي وثقافي. هنا، تتجلى الحداثة في بنية الرواية: ثلاث شخصيات، ثلاث حكايات، سرد متداخل، وصمت نهائي أقوى من أي بيان.

وفي روايات أخرى مثل "أرض البرتقال الحزين" و"ما تبقى لكم"، يستمر كنفاني في تفكيك الهوية الفلسطينية، لا بوصفها رمزًا ثابتًا، بل بوصفها حالة تتشكل تحت الضغط. الإنسان في رواياته ليس "بطلاً" تقليديًا، بل مخلوق هش، يتحرك بين الخوف والحنين واللاجدوى.

تقنيات السرد الحداثي: تفكيك الزمن وتعدد الأصوات

واحدة من أبرز سمات الرواية الحداثية هي تشظي الزمن، وتعدد وجهات النظر، واستخدام تيار الوعي. لم يعد الحدث يُروى بطريقة خطية، بل يُكسر الزمن، يُعاد ترتيبه، يُروى من زوايا مختلفة، مما يُشرك القارئ في إعادة بناء القصة. هذا ما فعله عبد الرحمن منيف في رواية "الآن... هنا"، التي يروي فيها تجربة المعتقل من الداخل، عبر وعي متشظٍ، حيث يتداخل الواقعي بالحلمي، والذاتي بالجماعي.

كذلك، نجد روايات مثل "الزيني بركات" لجمال الغيطاني، والتي استخدمت تقنيات التناص مع السرد التاريخي لتقول شيئًا عن الحاضر. النص هنا لا يقدّم رسالة مباشرة، بل يتعامل مع اللغة بوصفها ساحة صراع: بين الكشف والتعمية، بين الذاكرة والنسيان.

الرواية كمنصة للتجريب في المضمون والشكل

الحداثة في الرواية لم تقتصر على الشكل، بل امتدت إلى طبيعة الموضوعات. لم يعد البطل دائمًا شريفًا أو منتصرًا، بل قد يكون فاسدًا، تائهًا، أو عاجزًا. مثلًا، في رواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، نشهد بطلاً مأزومًا، هاربًا من العدالة، ضحية خيانة، وصراع داخلي عميق. محفوظ، رغم انطلاقته التقليدية، انتقل تدريجيًا إلى الرواية الحداثية في أعمال مثل "الطريق" و"الشحاذ"، حيث يصبح البطل مجرّد وعي يبحث عن معنى وسط العبث.

حتى إبراهيم الكوني[6]، في مشروعه السردي الصحراوي، قدّم نموذجًا للرواية الحداثية الممزوجة بالأسطورة والصوفية. نصوصه تشتغل على الهامش الثقافي، لكنها تستخدم لغة مركبة، وصورًا رمزية، وشخصيات ذات أبعاد فلسفية، ليؤكد أن الحداثة لا تعني فقط المدينة، بل الوعي العميق بالمكان والوجود.

الرواية تكتب الحيرة

ما فعله منيف وكنفاني، ومعهما محفوظ والكوني والغيطاني، كان أكثر من تجديد شكل الرواية. لقد نقلوها من كونها أداة للحكي، إلى كونها أداة للتفكير، وللتفكيك، وللتشكيك. الحداثة هنا لا تعني غياب المعنى، بل تعني أن المعنى لم يعد يُقدَّم بسهولة. على القارئ أن يبحث، أن يربط، أن يتأمل.

الرواية العربية الحداثية تحوّلت إلى حوار مع الذات، ومع اللغة، ومع السلطة، ومع القارئ نفسه. لم تعد تعِد بالخلاص، بل بالكشف. وهذا وحده كافٍ ليجعلها علامة بارزة في تحوّل الثقافة العربية من يقين الخطابة إلى قلق السؤال.

الحداثة الأدبية: من التمرد الشعري إلى سؤال المعنى (دراسة نقدية في السياقات والتحولات والمآلات) | حسن امحيل


7. هل فشلت الحداثة؟ بين النخبوية وانفصال الجمهور

مع اتساع تجربة الحداثة في الأدب العربي، وتنوّع أساليبها وأصواتها، بدأت تظهر تساؤلات جادة: هل استطاعت هذه الحداثة أن تُحدث تغييرًا حقيقيًا؟ هل أوصلت صوتها إلى الناس؟ أم أنها بقيت محصورة في دوائر ثقافية ضيقة؟

هذه الأسئلة ليست عابرة، بل هي جوهرية في تقييم أي مشروع فكري أو جمالي، خصوصًا إذا كان يدّعي القطيعة مع القديم والسعي لتأسيس وعي جديد.

لقد تعرّضت الحداثة العربية، خاصة في الشعر، لهجوم مستمر منذ بداياتها. أبرز التهمة: النخبوية. قيل إن القصيدة الحداثية غامضة، متعالية، لا تهتم بالقارئ العادي، بل توجه خطابها إلى مثقفين وأكاديميين. واُتُّهِم كتّابها بأنهم يعيشون في "برج عاجي"، يكتبون لأنفسهم أو لدوائر ضيقة، غير معنية بالقارئ الشعبي أو القارئ "العادي".

الغموض المقصود: علامة نضج أم انفصال؟

بالفعل، لا يمكن إنكار أن جزءًا كبيرًا من الحداثة الشعرية اعتمد على الغموض، واستخدام صور مركبة، ولغة رمزية، وأحيانًا متقعّرة. لكن هذا الغموض لم يكن عبثًا دائمًا، بل في أحيان كثيرة كان ناتجًا عن موقف فلسفي وفكري من العالم.

الشاعر الحداثي لا يسعى إلى تسهيل المعنى، بل إلى خلق تجربة ذهنية وجمالية تتطلب قارئًا فاعلًا، لا مستهلكًا سلبيًا.

فكما يقول أدونيس: "القصيدة ليست تفسيرًا للواقع، بل خلخلة له".

لكن في المقابل، هناك تجارب حداثية حاولت أن تُبقي الجسر ممدودًا مع القارئ، دون أن تتنازل عن رؤيتها الفنية. تجربة محمد الماغوط نموذج لذلك. كتب بلغة سهلة، لكنه حمل أفكاره الحداثية في صورته الساخرة من العالم، في جُمله القصيرة، وفي إحساسه العميق بالوحدة والغربة والخذلان.

قصيدة الماغوط لا تحتاج قاموسًا، لكنها تهزّ القارئ مثل صرخة جريحة.

القصيدة والمسرح والجمهور الغائب

مع صعود الحداثة، غابت القصيدة عن المنابر الجماهيرية. لم تعد تُقرأ في المقاهي، ولا في الأمسيات العامة، كما كان يحدث في عصر الشعر العمودي. حدث نوع من القطيعة بين الجمهور والشاعر، خاصة حين بات النص يرفض التفسير المباشر، ويطلب من القارئ أن يكون ناقدًا وفيلسوفًا في آن واحد.

في المسرح الشعري مثلاً، كانت تجربة صلاح عبد الصبور ثرية في الربط بين الحداثة والجمهور، لكن ذلك لم يمنع تراجع الشعر عن كونه أداة شعبية. ومع صعود الأغنية والدراما التلفزيونية، خسر الشعر الحديث مواقعه، وراح يتراجع إلى المجلات المتخصصة والكتب القليلة الانتشار.

الرواية تتقدم: سرد سهل... ومعقد في العمق

بينما واجه الشعر أزمة مع الجمهور، استطاعت الرواية أن تحقّق اختراقًا أوسع. ربما لأن الرواية بطبيعتها أكثر قدرة على استيعاب اللغة اليومية، والشخصيات المتنوعة، والقصص القريبة من الواقع.

كتّاب مثل علاء الأسواني وإبراهيم نصر الله وواسيني الأعرج وهدى بركات، استخدموا أدوات الحداثة السردية لكن بلغة أقل تجريدًا، وأكثر قربًا من القارئ العام.

هذا لا يعني أنهم تخلّوا عن الطرح الفكري، بل بالعكس. لكنهم نجحوا في تقديم نصوص "ذكية وممتعة" في آن. والذكاء هنا لا يعني التعقيد، بل القدرة على اختزال أسئلة كبرى في صور قريبة من الحياة اليومية.

الحداثة والسلطة الثقافية: من يقرر ما هو “الجيد”؟

جانب آخر من إشكالية الحداثة يتمثّل في علاقتها بالسلطة الثقافية. كثير من المشاريع الحداثية وجدت دعمًا من مؤسسات ثقافية رسمية، أو جوائز كبرى، أو مجلات نُخبوية. هذا جعل بعض الكتّاب التقليديين يتهمون الحداثيين بأنهم يمارسون نوعًا من الإقصاء، أو أنهم يُفرضون من فوق، لا من تحت.

لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فالحداثة لم تكن يومًا تيارًا متماسكًا مسيطرًا، بل كانت دائمًا تيارًا مضادًا، متمردًا. كثير من شعراء الحداثة عاشوا الفقر، والإقصاء، والمنع، والملاحقة، لأنهم كتبوا ما لا يُقال، وفضحوا ما يُراد له أن يُنسى.

أدونيس نفسه مُنع من النشر في بلدان عدة. وسعدي يوسف ظلّ على هامش الجوائز رغم حضوره الشعري الكبير.

إذا كانت الحداثة قد سكنت يومًا في المراكز الثقافية، فإنها بدأت في الهامش، ولا تزال فيه بمعناها الحقيقي.

الحداثة الرقمية: فرصة جديدة أم تكرار قديم؟

في زمن الإنترنت، تغيّر كل شيء. لم تعد المنصات النخبوية هي الممر الوحيد للنصوص. صار بالإمكان أن تصل القصيدة أو الرواية إلى آلاف القرّاء عبر فيسبوك أو إنستغرام أو بودكاست.

فهل أتاح هذا الفضاء للحداثة فرصة جديدة للخروج من العزلة؟

الإجابة ليست حاسمة. صحيح أن بعض الشعراء الحداثيين الجدد نجحوا في الوصول إلى جمهور واسع عبر نصوص قصيرة ومكثفة، لكن ظهرت أيضًا موجات من النصوص السطحية التي تستغل الحداثة كزينة لا كموقف.

وهنا يظهر التحدي من جديد: كيف نكتب حداثة تصل إلى الناس دون أن تفقد جوهرها الفكري؟ كيف نصنع نصًا صادقًا، لا فقط شكليًا؟

لا فشل... بل مسار مفتوح

القول إن الحداثة فشلت، هو اختزال مخل. الحداثة لم تكن وعدًا بالخلاص، بل كانت ولا تزال موقفًا نقديًا دائمًا من اللغة، والسلطة، والتقليد.

هي لم تعد جمهورًا غفيرًا، لكنها صنعت قارئًا أعمق، وكاتبًا أكثر وعيًا. وربما هذا هو المعنى الحقيقي للنجاح الثقافي.

ففي النهاية، الحداثة ليست موجة مرت وانتهت، بل مسار مفتوح، مليء بالأسئلة، بالشك، بالتجريب. وهي لم تأتِ لتخطف القارئ، بل لتوقظه.

8. ما بعد الحداثة: سخرية، فانتازيا، وتحطيم القوالب

عندما بدأت ملامح الحداثة في الأدب العربي تتشكل في الستينيات والسبعينيات، بدا الأمر وكأننا دخلنا منطقة جديدة، بوعي لغوي مختلف، وشكل أدبي غير تقليدي. لكن مع مرور الوقت، ومع تغير الظروف السياسية والثقافية، بدأت تظهر أصوات تتعامل مع الحداثة نفسها كمنظومة مغلقة، تحتاج إلى مساءلة.

هنا بدأ الحديث عن "ما بعد الحداثة"، ليس كنقيض للحداثة، بل كمرحلة تتجاوز بعض أوهامها، خاصة إيمانها العميق بالعقل، والعمق، والمشاريع الكبرى.

ما بعد الحداثة، كما ظهرت في الغرب، تميزت بعدة خصائص: تفكيك السرديات الكبرى (الدين، الدولة، القومية، العقل)، وتداخل الأجناس الأدبية، والسخرية من الجدية الزائدة، والاحتفاء بالهامش والمهمّش، ودمج الثقافات الشعبية والفنية في النصوص.

ما بعد الحداثة عربياً: متى بدأت؟

في العالم العربي، لا يوجد تاريخ حاد لبداية ما بعد الحداثة. لكنها ظهرت تدريجيًا في الثمانينيات والتسعينيات، خاصة مع تصاعد خيبات المشروع القومي، وانكسار الأيديولوجيات، وانفتاح العالم العربي على الإعلام الجديد، والتقنيات الرقمية، وتفكك السلطة الثقافية التقليدية.

هنا، بدأنا نرى نصوصًا تحتفي باللايقين، وتستخدم السخرية بدلًا من الموقف الجاد، وتخلط بين الرواية والمقال واليوميات، وتدمج بين اللغة الفصحى والعامية، بل وبين الأدب والوسائط الأخرى (فيديو، أغنية، تدوينة).

خصائص السرد ما بعد الحداثي: اللعب بدل البناء

رواية ما بعد الحداثة لا تُبنى، بل تُلعب. لا تبدأ من نقطة وتنتهي عند أخرى، بل تتشظى، تتفرع، وتبني عوالم متداخلة.

مثلًا، نجد في روايات ربيع جابر، خاصة "أميركا" و"دروز بلغراد"، استخدامًا بارعًا للوثيقة، وللخيال التاريخي، ولتفتيت السرد إلى شظايا تُركّب عبر نظرة القارئ. الرواية لا تقدم الحقيقة، بل تسخر منها أحيانًا، أو تعرضها كاحتمال لا أكثر.

كذلك في أعمال أحمد سعداوي، خاصة روايته "فرانكشتاين في بغداد"، نلاحظ تداخل الواقعي بالغرائبي، واستخدام الرمز الساخر لشخصية "الشيْسمو" التي تتكوّن من بقايا ضحايا العنف في العراق. إنها رواية ذات طابع فانتازي، لكنها مشحونة بوعي سياسي وفلسفي، في إطار من السرد الساخر والمفكك.

السخرية كسلاح سردي

من أهم ملامح ما بعد الحداثة في الأدب العربي هو الاستخدام المكثف للسخرية. هذه ليست سخرية للتسلية، بل استراتيجية لخلخلة السلطة: سلطة المعنى، اللغة، المؤسسة، وحتى القارئ نفسه.

رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لـ إميل حبيبي تُعدّ من أوائل الأعمال التي مزجت السخرية السياسية بالفنتازيا، في نص يصعب تصنيفه بدقة. إنه عمل "بعد حداثي" قبل أن تُستخدم التسمية على نطاق واسع.

أيضًا، كتابات يوسف رخا، مثل "كتاب الطغرى"، تُظهر انفتاحًا على التهكم من الأساليب القديمة، بلغة هجينة، تمزج التراث بالسخرية من الخطاب الثقافي والسياسي، وتعيد كتابة الهوية العربية من منظور ساخر ومفكك.

نص بلا مركز: تعدد الأصوات وزوال المؤلف

فيما بعد الحداثة، لم يعد الكاتب مركزًا أو مرشدًا، ولم تعد الرواية تتحدث من منظور عليّ. هناك تعدد في الأصوات، تداخل في الهوية، وتشكيك دائم في الحقائق. هذه الفكرة طُبّقت في أعمال هدى بركات، مثل "ملكوت هذه الأرض" و"بريد الليل"، حيث تتعدد الأصوات، وتغيب الحقيقة المطلقة، ويترك النص مفتوحًا على التأويلات.

الرواية هنا لا تمنح المعنى، بل تطرحه كسؤال. إنها ليست مرآة ولا نافذة، بل شبكة رمزية معقّدة لا تؤمن بالثبات، ولا بالبطولة، ولا بالخلاص.

ما بعد الحداثة والشكل البصري والرقمي

في العصر الرقمي، أخذت ما بعد الحداثة منحى جديدًا. ظهر كتّاب يوظفون الصورة، والاقتباسات، والرموز البصرية، ضمن النص، بل أحيانًا يعرضون نصوصهم على إنستغرام وتيك توك، حيث تختلط الكتابة بالأداء، بالصوت، بالفيديو.

الحدود تنهار بين الكاتب والمخرج والمغني، ويولد نص جديد هجين.

في هذا السياق، ظهرت نصوص "الومضة"، وهي نصوص قصيرة جدًا، قد لا تتجاوز السطر أو السطرين، لكنها مشحونة بدلالة عميقة، وتُنشر غالبًا في الفضاء الرقمي، وتلقى رواجًا لافتًا، خاصة لدى الشباب.

نقد ما بعد الحداثة: التفكيك أم السطحية؟

رغم كل هذا الزخم، وُجّهت انتقادات عدة إلى ما بعد الحداثة. قيل إنها تُنتج نصوصًا بلا عمق، تسخر من كل شيء ولا تؤمن بأي شيء، تُشظي الواقع بدل تحليله، وتُقلل من قيمة اللغة بوصفها أداة فكر.

يقول البعض إن ما بعد الحداثة جاءت في زمن اليأس، فاختارت اللعب بدل الفعل، والانسحاب بدل المواجهة. بينما يردّ آخرون بأنها الأكثر صدقًا مع واقع عربي مليء بالتناقضات، لا يحتمل الجدّية الزائدة.

هل انتهى المعنى؟

ما بعد الحداثة لا تدّعي أن المعنى انتهى، لكنها تشكك في وجود معنى واحد. إنها تفتح الباب أمام احتمالات جديدة للكتابة، للهوية، للسرد، للغة.

قد تُربك القارئ أحيانًا، لكنها تمنحه حرية أن يكون شريكًا في النص، لا مجرد متلقٍ سلبي.

الأدب العربي ما بعد الحداثي لا يقدّم أجوبة، لكنه يكشف الأسئلة. لا يطمئن القارئ، لكنه يعامله باحترام. وفي زمن انهارت فيه المعايير القديمة، قد تكون هذه التجربة أقرب إلى الصدق من أي شكل آخر.

9. سؤال لا ينتهي: هل الحداثة حالة أم موقف؟

بعد كل هذا المسار الطويل الذي قطعته الحداثة في الأدب العربي، من التمرد الشعري إلى التجريب السردي، ومن الغموض إلى التفكيك، ومن النخبوية إلى التفاعل الرقمي، يبقى سؤالٌ جوهري لا يمكن تجاوزه:

هل الحداثة مجرد مرحلة مرّت؟ أم أنها حالة دائمة من التوتر والبحث؟

هل هي لحظة تاريخية انتهت، أم موقف دائم من اللغة والواقع؟

في الحقيقة، كل محاولات تعريف الحداثة اصطدمت بصعوبة واحدة: عدم قابليتها للثبات. فهي ليست "أسلوبًا" محددًا يمكن تقليده، ولا "مدرسة" لها قواعد صارمة، بل هي توتر مستمر مع المألوف. الحداثة، في جوهرها، ليست انتماء إلى شكل جديد فقط، بل موقف نقدي من كل ما يُفرض بوصفه مطلقًا أو جاهزًا.

الحداثة ليست مرحلة مغلقة

كثيرون تحدثوا عن "نهاية الحداثة"، خاصة بعد صعود ما بعد الحداثة، والرقمنة، وتغير الذائقة العامة. لكن من الخطأ اعتبار الحداثة مجرد مرحلة تاريخية لها بداية ونهاية. الحداثة ليست كسراً للعمود الشعري، أو استخدام تيار الوعي فقط، بل هي وعي متجدد بأن الكتابة لا تكون صادقة إلا عندما تعيد النظر في أدواتها، وفي علاقتها بالقارئ، وبالعالم.

ولهذا، نرى حتى اليوم كتّابًا وشعراء عربًا شبابًا يكتبون من منطلق حداثي، وإن لم يستخدموا نفس المصطلحات. فهم لا يبحثون عن التقليد، ولا يكررون نماذج سابقة، بل يطرحون أسئلتهم بطريقتهم، في لغات هجينة، ومنصات جديدة، وسياقات مختلفة.

الحداثة لم تنتهِ، بل تغيرت أدواتها فقط.

الحداثة كمعركة مع اللغة

من أوضح سمات الحداثة في الأدب العربي أنها حوّلت اللغة من وسيلة وصف، إلى موضوع للكتابة. لم تعد اللغة شفافة، بل غدت كثيفة، مليئة بالتوتر، تتردد، وتتشكك، وتخون المعنى أحيانًا.

هذا ما فعله أدونيس في الشعر، وعبد الرحمن منيف في الرواية، والطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال"، حيث اللغة ليست مجرد وسيط، بل ميدان صراع بين الذات والعالم.

حتى الكتّاب الذين عادوا إلى العامية، أو خلطوا الفصحى بالدارجة، كما فعل بعض كتّاب الرواية الجدد، فعلوا ذلك من باب مساءلة اللغة، لا التبسيط فقط. الحداثة لا تعني تعقيد اللغة أو تبسيطها، بل اختبار قدرتها على التعبير عن العالم المعقّد والمتغيّر.

من القطيعة إلى التأويل: الحداثة والتراث

في بداياتها، اتُّهِمت الحداثة بأنها ضد التراث. لكن مع الوقت، بدأ يتضح أن الحداثيين الحقيقيين لم يهدموا التراث، بل أعادوا قراءته وتأويله.

الحداثة لا تعني رفض كل ما هو قديم، بل رفض التعامل مع القديم بوصفه مقدّسًا، لا يُمس.

جمال الغيطاني، مثلًا، لم يكتب فقط روايات مستوحاة من المخطوطات، بل أعاد إنتاج الحسّ الصوفي في سياق حداثي.

كذلك، استخدم محمود درويش[7] في دواوينه الأخيرة رموزًا توراتية، وصورًا من التاريخ العربي، لكن ضمن رؤية حداثية مفتوحة على التأويل.

الحداثة هنا موقف فكري: أن التراث مادة حية، تُقرأ، لا تُردد.

القارئ الحداثي: شريك لا تابع

أحد أهم إنجازات الحداثة الأدبية أنها غيّرت دور القارئ.

فبعد أن كان المتلقي يقرأ النص ليفهم "الرسالة" أو "العبرة"، صار القارئ مدعوًّا إلى أن يُعيد بناء المعنى، أن يشكّك، أن يسأل، وأن يتفاعل مع النص لا أن ينصاع له.

هذه العلاقة الجديدة تتطلب قارئًا أكثر وعيًا، وأكثر استعدادًا للمغامرة الفكرية. قد لا تكون هذه العلاقة سهلة، لكنها أكثر صدقًا.

النص الحداثي لا يمنح القارئ إجابات، بل يوقظ أسئلته النائمة.

الحداثة كمسؤولية إبداعية

الحداثة لا تُمنح، ولا تُكتسب بنسخ الأساليب. هي ليست "موضة أدبية"، بل مسؤولية إبداعية وفكرية.

الكاتب الحداثي لا يكتب ليعجب الناس فقط، بل ليقول شيئًا حقيقيًا عن عصره، حتى لو جاء ذلك على حساب التقبل العام أو المديح السريع.

هذا ما فعله السياب وهو يكتب "أنشودة المطر" بلغة لم تكن معهودة.

ما فعله غسان كنفاني حين أنهى روايته بصمتٍ قاتل.

ما فعله سعدي يوسف عندما كتب عن وطنٍ "يركض في الليل عاريًا من صوته".

وما فعله كل من حمل قلق المعنى، وأصرّ على أن الأدب ليس مجرد حكاية، بل موقف.

الحداثة لا تنتهي لأنها لا تستقر

الحداثة ليست وصفة جاهزة، ولا تيارًا محفوظًا في الكتب. إنها حركة، وقلق، وتجريب. إنها السؤال الذي لا يُجاب عليه مرة واحدة، بل يُعاد طرحه كل مرة بشكل مختلف.

من هنا، فإن سؤال "هل انتهت الحداثة؟" لا معنى له إلا إذا ظننا أن الأدب يمكن أن يستقر.

لكن ما دام العالم يتغير، والإنسان يتغير، واللغة تتغير، فإن الحداثة ستبقى حية، لا بشكلها القديم، بل بروحها التي لا تكف عن التشكيك، وإعادة النظر، وفتح الأبواب المغلقة.

الحداثة ليست مرحلة عبرناها.

الحداثة هي كل لحظة نكتب فيها شيئًا صادقًا، بصيغة لم تُكتب من قبل. 

المراجع

§  James Joyce. (1922). Ulysses. Paris: Shakespeare and Company.

§  Juan José Millás. (1996). El desorden de tu nombre. Madrid: Editorial Seix Barral.

§  T.S. Eliot. (1922). The Waste Land. London: Faber & Faber.

§      أحمد سعداوي. (2013). فرانكشتاين في بغداد. بيروت: منشورات الجمل.

§      أدونيس. (1998). الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب. بيروت: دار الساقي.

§      أمل دنقل. (1976). أوراق الغرفة 8. بيروت: دار العودة.

§      إبراهيم الكوني. (2003). نزيف الحجر. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

§      إميل حبيبي. (1974). الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل. حيفا: دار النشر العربي.

§      بدر شاكر السياب. (1954). أنشودة المطر. بغداد: منشورات دار الجمهورية.

§      جمال الغيطاني. (1974). الزيني بركات. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

§      صلاح عبد الصبور. (1965). مأساة الحلاج. القاهرة: دار المعارف.

§      عبد الرحمن منيف. (1984-1989). مدن الملح (خماسية). بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

§      غسان كنفاني. (1963). رجال في الشمس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.

§      فرانز كافكا. (1925). المحاكمة. ترجمة: محمد عبد النبي، القاهرة: دار آفاق للنشر.

§      محمود درويش. (2003). حالة حصار. رام الله: منشورات دار العودة.



[1] فرانز كافكا. (1925). المحاكمة. ترجمة: محمد عبد النبي، القاهرة: دار آفاق للنشر.

[2] بدر شاكر السياب. (1954). أنشودة المطر. بغداد: منشورات دار الجمهورية.

[3] أدونيس. (1998). الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب. بيروت: دار الساقي.

[4] جمال الغيطاني. (1974). الزيني بركات. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

[5] غسان كنفاني. (1963). رجال في الشمس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.

[6] إبراهيم الكوني. (2003). نزيف الحجر. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

[7] محمود درويش. (2003). حالة حصار. رام الله: منشورات دار العودة.

تعليقات