وجوه بلا ملامح
في كل يوم، أعبر مدنا من الضوء، ألتقي آلاف الوجوه، لكنها جميعا متشابهة.
عيون تحدق في الشاشات، ابتسامات محفوظة في رموز صفراء، ومشاعر تختزلها ردود جاهزة.
نتحدث كثيرا، لكن أصواتنا لا تُسمع. نضحك، نبكي، نحب، ونكره، وكل ذلك بصمت
خلف شاشات زجاجية لا تعكس سوى الظلال.
متى كانت آخر مرة قرأتُ تعبيرا حقيقيا على وجه شخص ما؟
متى شعرتُ بدفء نظرة، أو صدق ابتسامة؟
صرنا نرسم أنفسنا كما نريد أن يرانا الآخرون، نصقل زوايانا، نعدل ألواننا،
نمحو عيوبنا، حتى أصبحنا صورا بلا عمق، وجوها بلا ملامح.
في هذا العالم، يمكنك أن تكون من تشاء، لكنك تفقد شيئا مهما في المقابل: نفسك
الحقيقية.
أتساءل أحيانا، هل ما زال بوسعي أن أتعرف على وجهي لو نظرتُ إليه بعيدا عن
كل هذه الشاشات؟
ذات صباح، قررت أن أراقب المارة دون شاشة تفصلني عنهم. وجوه كثيرة مرّت بجانبي،
بعضها مبتسم، بعضها عابس، لكن القاسم المشترك بينها كان التعب! ذلك التعب الذي لا يظهر
في الصور المعدّلة، لكنه يسكن العيون الحقيقية.
تساءلت:
هل نحن نختبئ خلف التكنولوجيا أم أنها هي من تختبئ خلفنا؟
هل فقدنا القدرة على قراءة بعضنا البعض لأننا اعتدنا التواصل بلا وجوه؟
عندما عدت إلى هاتفي، وجدت إشعارا جديدا:
"فلان أضاف صورة جديدة." ضغطت على الإشعار، فظهرت أمامي صورة مثالية:
ابتسامة مشرقة، خلفية ساحرة، ولا أثر لأي تعب.
ضحكت في داخلي، ليس سخرية، بل حزنا. أدركت أنني أيضا أفعل الشيء ذاته. نُخفي
أنفسنا الحقيقية، نخشى أن نُرى كما نحن، فنختار أن نكون مجرد صور، وجوها بلا ملامح.
لكنني أشتاق إلى العالم كما كان من قبل. إلى العيون التي تتحدث قبل أن ينطق
اللسان، إلى الضحكات التي لا تحتاج إلى "فلتر"، وإلى الوجوه التي لا تخشى
أن تكون حقيقية.
ربما، في يوم ما، سنعود لنتذكر كيف يبدو الإنسان عندما يكون إنسانا، لا مجرد
صورة رقمية في معرض من الوجوه المصطنعة والمزيفة.
ذاكرة في سحابة
لم أعد أحتاج إلى صندوق خشبي مليء بالصور القديمة، ولا إلى دفتر يوميات يخبئ
أسراري تحت وسادتي.
كل شيء الآن معلق في الهواء، في سحابة بلا شكل ولا وزن.
صور طفولتي محفوظة في خازن بعيدة، رسائلي الأولى، ضحكاتي، وحتى دموعي التي
سقطت على لوحة المفاتيح. كل لحظة مررت بها تحولت إلى بيانات، تنتظر من يستدعيها بنقرة
واحدة.
لكن، ماذا لو انقطعت الكهرباء؟
ماذا لو اختفت هذه السحابة؟
هل سأفقد
ماضيَّ؟
هل سأصبح شخصا بلا ذاكرة، بلا جذور؟
في الماضي، كانت الذكريات تُنسى ببطء، تبهت ألوانها مع الزمن، لكنها تبقى
جزءا منّا. أما الآن، فهي لا تُنسى، لكنها أيضا ليست حقيقية كما كانت... مجرّد صور
رقمية، بلا رائحة، بلا ملمس، بلا روح.
أنا إنسان بذاكرة في سحابة، أخشى أن تذوب في الهواء، وأتساءل:
هل نحن من نمتلك ذكرياتنا، أم أن هناك من يمتلكها عنا؟
ذات مساء، فتحت هاتفي لأتصفح ذكرياتي. وجدت إشعارا:
"في مثل هذا اليوم، قبل عشر سنوات..."
ظهرت صورة لي، أبتسم فيها بعفوية، في مكان ربما لم أعد أذكر تفاصيله جيدا.
لكن الصورة كانت هناك، واضحة تماما، كأن الزمن لم يمضِ.
تساءلت:
هل هذه الذاكرة حقيقية، أم أنها مجرد نسخة محفوظة؟
هل كنت سعيدا حقا في تلك اللحظة، أم أنني أبتسم فقط للكاميرا؟
في الماضي، كنا نعيش اللحظة ونتركها تذهب، أما الآن، فنحن نعيشها مرتين: مرة
حين تحدث، ومرة عندما تعيدها لنا الخوارزميات.
لكنني أدركت أن هذه السحابة ليست سماء صافية، إنها أيضا تمطر أحيانا. قد تفقدني
صورة، أو تحذف ملفا، أو تسجل لحظة لم أكن أرغب في الاحتفاظ بها. لم أعد أملك السيطرة
الكاملة على ذاكرتي، فهناك من يحفظها، وهناك من قد يقرر محوها.
في زمن السحابة، لا ننسى، لكننا أيضا لا نتذكر بالطريقة ذاتها. نحن عالقون
بين الماضي الذي لا يختفي والمستقبل الذي يُراقب كل خطوة نخطوها. تُرى، هل ستظل ذاكرتي
ملكي، أم أنها ستبقى في قبضة كيان لا أعرفه، يحفظها لي لكنه لا يمنحني مفتاحها؟
ربما آن الأوان لأعود إلى دفتر يومياتي، لأكتب ذكرياتي بيدي، بحبر لا تستطيع
أي سحابة أن تمحوه.
السيرة الذاتية للكاتب المغربي جواد العوالي
جواد العوالي كاتب وأستاذ لغة عربية، وُلد في 10 أبريل 1982 بمدينة طنجة،
المغرب. حصل على شهادة البكالوريا في الآداب العصرية من ثانوية الملك فهد بن عبد
العزيز، ثم تابع دراسته بجامعة عبد المالك السعدي، حيث نال الإجازة في الدراسات
الأساسية. كما حصل على دبلوم في التربية ما قبل التمدرس من الأكاديمية الجهوية
للتربية والتكوين بجهة طنجة تطوان الحسيمة.
بدأ مسيرته المهنية كأستاذ للغة العربية في السلك الابتدائي بين عامي
2009 و2022، قبل أن ينتقل إلى تدريس المادة في السلك الإعدادي منذ عام 2022 وحتى
اليوم.
إلى جانب عمله التربوي، يتميز العوالي بحس أدبي مرهف، حيث أصدر عام 2024
مجموعته القصصية الأولى "عبارات ملهمة" عن دار البسمة للنشر. كما يستعد لإصدار روايته الجديدة قريبا
عن مؤسسة أفرا للدراسات والأبحاث، والتي ستُعرض في المعرض الدولي للكتاب بالرباط.
يُعرف أسلوب جواد العوالي الأدبي بقدرته على رصد التحولات الاجتماعية
والنفسية التي يعيشها الإنسان المعاصر، خاصة في ظل هيمنة التكنولوجيا والتواصل
الرقمي. في نصه "وجوه بلا ملامح"، يتناول ببراعة فقدان الهوية وسط العالم الافتراضي، حيث تصبح
الوجوه مجرد صور معدّلة، والمشاعر تختزلها رموز إلكترونية. يعبّر بأسلوب تأملي
عميق عن فقدان الاتصال الإنساني الحقيقي، داعيا القارئ إلى التساؤل عمّا إذا كان
لا يزال قادرا على رؤية ذاته الحقيقية بعيدا عن الشاشات.
أما في نصه "ذاكرة في سحابة"، فيطرح تساؤلات فلسفية حول معنى الذاكرة في العصر الرقمي، حيث
تُختزل الحياة في بيانات محفوظة في خوادم إلكترونية، وتفقد الذكريات روحها
الأصلية. بأسلوب يجمع بين الحنين والقلق، يعكس العوالي مخاوفه من ضياع المعنى
الحقيقي للزمن، متسائلا عما إذا كنا نمتلك ذكرياتنا، أم أن هناك من يتحكم بها
نيابة عنا.