وفيق صفوت مختار | كاتب وباحث مصري
يُعتبر «ليو تولستوي» من أعمدة الأدب الرُّوسي في القرن التَّاسع عشر، كما يعتبرُه البعض من أعظم الرِّوائيِّين على الإطلاق. وهُو أديب إنسانيّ النَّزعة، ورائد من رُوَّاد الفكر الاشتراكي العالمي. وقد تباينت الآراء والأقوال فيه، فبعضهم وضعه في مصاف الاشتراكيِّين المُصلحين، ووضعه البعض الآخر في مصاف الثَّائرين الذين يَدْعُون إلى الهدم. والحقيقة أنَّه كان يَحْلُم بتنظيم المُجتمع بلا ملكيَّةٍ أو دولةٍ، لكنَّه خالف الفوضوييِّن في سعيه إلى بُلُوغ هذا الهدف من غير عُنف أو فوضي.
ولقد وجد «تولستوي» خلَّاص روحه في جوهر الدِّين وليس في القشور أو الطُّقُوس أو المظاهر، وما يُدهشُنا حقًا في الرَّجُل أنَّه كان من طبقة النُّبلاء الرُّوس، وأنَّه إقطاعي وأرستُقراطي يحمل لقب «كونت»، فقد ورث (300) فدانًا من الأرض يعمل فيها (330) فلاحًا، وإذا به يصل إلى وقتٍ يتنازُل فيه عن لقبه، وأملاكه، وعاداته المورُوثة، ويأكل كالفلاحين ويرتدي زيًّا كأزيائهم.
أعتبره الأديب الرُّوسي الكبير «فيودور دوستويفسكي» (1821- 1881م) من أعظم الرِّوائيِّين العالميِّين. كما أنَّ الشَّاعر البريطاني «ماثيو أرنولد» (1822- 1888م) قال عن رواية «لحرب والسَّلام»: «رواية تولستوي ليست عمل فنِّي ولكن قطعة من الحياة». كما أعلنت الرِّوائيَّة الإنجليزيَّة الشَّهيرة «فرجينيا وولف» (1882- 1941م) أنَّ «ليو تولستوي»: «أعظم من كُلِّ الرِّوائيِّين الآخرين».
☆☆☆
ولد «ليو نيكولايفيتش تولستوي» في التَّاسع من شهر سبتمبر عام 1828م بقرية «ياسانيا بوليانا»، بمقاطعة «تولا» الرُّوسيَّة. كان والده من قُدامى المُحاربين الوطنيِّين، ويحمل لقب «كونت»، وأُمَّه «ماريا تولستايا» تحمل لقب «الكونتيسة»، وقد توفيت وهو في الثَّالثة من عُمْره. وبعد سنوات قليلة توفي والده فأسندت تربيتُه إلى إحدى عمَّاته.
في سبتمبر من عام 1844م، التحق «تولستوي» بجامعة «كازان» للُغات الشَّرقيَّة، قسم اللُّغتين التَّركيَّة والعربيَّة، ولقد اختار هذا التَّخصُّص لسببين: الأوَّل، لأنَّه أراد أنْ يُصبح دبلُوماسيًّا في الشَّرق العربي، والثَّاني، لأنَّه مهتم بآداب شُعُوب الشَّرق. ولكن طرق التَّدريس لم تُعجبه فهجرها إلى الأعمال الحُرَّة في عام 1847م، وبدأ بتثقيف نفسُه بنفسُه.
في عام 1851م، التحق بجيش القوقاز وتدرج في الرُتب حتى بات مُؤهلًا لرُتبة ضابط. وبعد تقاعُده من الخدمة العسكريَّة في عام 1859م سافر إلى أُورُوبا الغربيَّة وأُعجب بطُرُق التَّدريس هُناك. ولمَّا عاد لمسقط رأسه بدأ في تطبيق النَّظريَّات التَّربوية التَّقدُّميَّة التي عرفها، وذلك بأنْ أفتتح (13) مدرسة خاصَّة لأبناء المُزارعين الذين تمَّ تحريرُهُم من الرِّقِّ والعُبُوديَّة. وأنشأ مجلَّة تربوية تُدْعى «ياسانيا بوليانا» شرح فيها أفكاره التَّربوية ونشرها بين النَّاس. وفي أُورُوبا أيضًا التقى الكاتب الفرنسي الكبير «فيكتور هوجو» (1802- 1885م)، حيث أشاد «تولستوي» برائعته «البُؤساء». ومع هذا فقد انتقد الغرب مُتهمًا إيَّاه بالماديَّة والبُعد عن الرَّحمة والإنسانيَّة.
في 23 من شهر سبتمبر عام 1862م تزوَّج «تولستوي» من «صوفيا بيرز» Sofia Behrs، والتي كانت تصغره بنحو ستَّة عشر عامًا، وكان يُطلق عليها اسم «سونيا»، وقد أنجبت له (13) طفلًا مات خمسة منهم في الصِّغر. وقد تميَّز الزَّواج في البداية بإشباع الغرائز الحسِّيَّة دُون الاكتراث بالجوانب العاطفيَّة، حيث قدَّم للزَّوجة عشية زواجهما، مُذكرة تفصيليَّة عن حياته العاطفيَّة التي منها على سبيل المثال: أنَّ واحدةً من عبيده قد أنجبت له ابنًا غير شرعيًّا، ومع ذلك، فقد كان زواجُه ملاذًا للهُدُوء وراحة البال، حيث تمكَّن بفضل هذا الزَّواج أن يقُوم بتأليف «الحرب والسَّلام»، و «آنّا كارنينا» مع «صوفيا» بوصفها سكرتيرته، التي تعمل كمُدقَّق لُغوي، والمُدير المالي لأعماله.
توفي «تولستوي» في20 نوفمبر من عام1910م في قرية «أستافو» Astapovo (في محطَّة القطار) حين هرب من بيته في «ياسانيا بوليانا» ليعيش وفق مبادئه حيت التَّخلي عن أُسلوب حياته الأرستقراطيَّة، وحينما دب النِّزاع والصِّراع بينه وبين زوجته التي كانت تُعارض بصراحةٍ شديدةٍ الكثير من تعاليمه تمَّ الانفصال عن زوجته، وقرَّر الهرب فغادر البيت في جوف اللَّيل دُون أن يُعلن نيَّته للهُرُوب. فأصيب بالالتهاب الرِّئوي الحاد في الطَّريق الذي كان سببًا في وفاته حسب تقارير الأطباء، وكان قد بلغ من العُمْر (82) عامًا. فأعيد جُثمانه إلى مسقط رأسه حيث دُفُن في حديقة ضيعة «ياسانيا بوليانا».
وتقول بعض المصادر أنَّ «تولستوي» قضى السَّاعات الأخيرة من حياته في وعظ ركاب القطار بالمحبَّة واللَّاعُنْف. وقد حاولت الشُّرطة فرض القُيُود لعدم وُصُول النَّاس إلى جنازته، ولكن الآلاف من الفلاحين اصطفُّوا في الشَّوارع لوداعه الأخير.
شرع «ليو تولستوي» في الكتابة منذ عام1851م، حيث بدأ ينشُر في مجلَّة «المُعاصر» الجزء الأوَّل من سيرته الذَّاتيَّة تحت عُنوان: «الطُّفُولة»، ثُمَّ نشر في عام 1855م الجُزء الثَّاني بعنُوْان: «المُراهقة»، وفي عام1857م، نشر الجزء الثَّالث: «الشَّباب». وفي عام1855م كتب قصّص «سيفاستوبول» Sevastopol استنادًا إلى تجربته في حرب القرم. و في عام 1859م نشر مجمُوعة من القصص أبرزها «ألبير».
ثُمَّ نشر رواية «الحرب والسَّلام» في مجلَّة «المُراسل الرُّوسي» في عام 1865م على حلقاتٍ مُتسلسلةٍ ثُمَّ نشرت كاملة في عام 1868م، وتُعد هذه الرِّواية من أشهر أعمال «تولستوي»، حيث يصف الحوادث السِّياسيَّة والعسكريَّة التي حدثت في أُورُوبا في الفترة ما بين 1805م و1820م، وتناول فيها غزو «نابليون» لرُوسيا عام1812م ، كما تتناول الرِّواية وصفًا دقيقًا للحياة الرُّوسيَّة في تلك الفترة.وفي عام1873م بدأ من جديد العمل الأدبي فعكف على كتابة رواية «أنّا كارنينا» التي صدرت فصولًا مُتسلسلةٍ على صفحات مجلَّة «المُراسل الرُّوسي» قبل أنْ تنشُر كاملة في عام1878م، وفي هذه الرِّواية عالج «تولستوي» قضايا اجتماعيَّة وأخلاقيَّة وفلسفيَّة في شكل مأساة غراميَّة كانت بطلتها هي «آنّا كارنينا».
وفي عام1879م أصدر كتابُه «اعتراف» الذي صور فيه أزمته النَّفسيَّة والدينيَّة والأخلاقيَّة. وفي أواخر حياته عاد «تولستوي» لكتابة القصص الخياليَّة، فكتب «موت إيفان إيلييتش»عام 1886م، كما كتب بعض الأعمال المسرحيَّة، مثل: «قُوَّة الظَّلام» عام 1888م، ثُمَّ أصدر رواية «الشَّيطان» في عام1889م، كما كتب رواية «البعث » في عام1899م . أمَّا رواية «الحاج مُراد» فقد نُشرت بعد وفاته، والتي توضح عُمق معرفته بعلم النَّفس، ومهارته في الكتابة الأدبيَّة، ومُدى حُبَّه ومعرفته بالقوقاز.
وكفيلسُوفٍ أخلاقيٍّ أعتنق أفكار المُقاومة السلميَّة النَّابذة للعُنف، وتبلور ذلك في كتاب «ملكُوت الله في داخلك»، وهو العمل الذي أثَّر على مشاهير القرن العشرين، مثل: «المهاتما غاندي» (1869- 1948م) ، و«مارتن لوثر كينج» (1929- 1968م)، في جهادهما الذي اِتَّسم بسياسة المُقاومة السلميَّة النَّابذة للعُنْف.
احترم «تولستوي» احترامًا خاصًّا الأدب الشَّعبي العربي، والثَّقافة العربيَّة، فعرف الحكايات العربيَّة وعشقها مُنذ طُفُولته، مثل: حكاية «علاء الدِّين والمصباح السَّحري»، وحكاية «قمر الزَّمان بين الملك شهرمان»، كما استمتع بقراءة «ألف ليلة وليلة».
وتعود علاقة «تولستوي» الأولى بالأدب الشَّعبيّ العربي إلى عام 1882م، فلقد نشر في مُلحق مجلَّته التَّربوية «ياسانيا بوليانا»، بعض الحكايات العربيَّة الشَّعبيَّة، منها حكاية «علي بابا والأربعين حرامي». ويظهر تأثَّر «ليو تولستوي» بألف ليلة وليلة في روايته «لحن كريستر». يُذكر أيضًا أنَّه تراسل مع الإمام «مُحمَّد عبده» (1849- 1905م)، ولكن توفى الاثنان ولم يكملُوا تحاوُرهم بعد رسالتين فقط!!