📁 تدوينات جديدة

تراث الأمم والحضارات من خلال كتاب العبر لابن خلدون / طارق العمراوي

تراث الأمم والحضارات من خلال كتاب العبر لابن خلدون / طارق العمراوي يعد كتاب "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" للمؤرخ عبد الرحمان ابن خلدون إبحار في أصناف المعارف والعلوم ومقدمات تحكم مقدمته المؤسسة لعلم جديد ,لقراءة نوعية للعمران البشري في حراكه ,جموده أو اندثاره ,قدم مقاربات , حلل بالأمثلة الدامغة التي يشقها المنطق وإعمال العقل ,أهمية أن يكتب التاريخ الانساني بعيدا عن الذاتيات، الأوهام، خرافات القصص والأساطير، كان ناقدا لكل أصناف المؤرخين والإخباريين في إيرادهم الخوارق والعجائب وتفاسيرهم التي لا تخضع للتحكيم المبني على هذا المنطق الذي رافق بيانه ونصوص متنه والفصول التي أتى على ذكرها فهو القائل "وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادها فيهم على مجرد النقل غثا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاصوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق"(1) 

وهذا النقل المعمول به ، المكرس لتوارث المعلومة والأخبار مثل ولا زال أحد عوائق البحث في تاريخ الأمم ومعالمها وما خلفوه من تراث ضاع جزء منه كما يذهب الى ذلك ابن خلدون, تفاعلنا مع الباقي منه ,دخلنا معه حلبة التجادل,أثر فينا، تأثرنا به، رفضناه، ساهمنا مع فواعل الطبيعةفي اندثاره,قدمنا محاولات لفهمه ما زالت متواصلة ،ابتدأت قبل العلامة ابن خلدون وبعده، حاول من موقعه وهو يؤسس لمنظومات العمران البشري ملامسة تراث الأمم والحضارات الذي مثل حلقة مهمة في الفهم والتحليل المؤسس لمشروعه الدارس للعمران البشرى، للعمارة القديمة، لحضارات غابرة استطاعت أن تقهر الزمن والآفات، عاشت لتشهد الناس والمؤرخين على طاقات إنسانية خارقة شدت اهتمام الخاصة والعوام كطبقة التقت وللأسف في الفهم مع مؤرخين وإخباريين كبار فاعتقد كلهم في خوارق وراء إنجاز هذه المعالم الشاهقة فقدموا تحاليلهم وتفاسيرهم القريبة من فهم العوام رفضها بمنطق الحجة والبرهان فهو القائل في شأن الكتاب أولا "وإنما مثار غلطهم في هذا أنهم استعظموا آثارالأمم ولم  يفهموا حال الدول في  الاجتماع والتعاون و مايصل بذلك وبالهندام  من الآثارالعظيمة فصرفوه الى قوة الأجسام وشدتها بعظم هياكلها وليس الأمر كذلك وقد زعم المسعودي ونقله عن الفلاسفة مزعما لا مستندا له إلا التحكم وهو أن الطبيعة التي هي جبلة للأجسام لما برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة ونهاية القوة والكمال وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى"(2)

أما العامة فانه يفند تصورهم العقيم وهو يحلل تفاصيل مشروعه قائلا:

" واعلم أن تلك الأفعال للأقدمين كانت بالهندام واجتماع الفعلة وكثرةالأيدي عليها فبذلك شيدت تلك الهياكل و المصانع ولاتتوهم ما تتوهمه العامة أن ذلك لعظم أجسام الأقدميين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد الهياكل والآثار ولقد ولع القصاص بذلك وتعالوا فيه وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في  الكذب"(3) 

لينقد عن طريق حكاية يوردها في أحد فصوله عندما يتحدث "فيما يجب مراعاته في أوضاع المدن وما يحدث اذا غفل عن المراعاة" البكري " وطريقة النقل وعيوبها كما أورد سلفا المسعودي اذ يقول :

"وهذه الحكاية من مذاهب  العامة ومباحثهم الركيكة والبكري لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبين خرفه فنقله كما سمعه"( 4) لتلتقي وجهة نظره وسدادها مع ياقوت الحموي في موسوعته "معجم البلدان" حين قال" وأما منارة الاسكندرية فقد قدمنا اكثارهم في وصفها ومبالغتهم في عظمها وتهويلهم في أمرها وكل ذلك كذب لايستحي حاكيه ولايراقب الله راويه ولقد شاهدتها في جماعة من العلماء وكل عاد  منا متعجبا من تخوص الرواة" (5) لنكتشف مع ابن خلدون وياقوت الحموي جمهرة مؤرخين ودارسين للتمدن الانساني حازمين، حذرين في تنقية المعلومة والأخبار من شوائب عدة  جعلت كل منهما يدرج في نصوصه وهو يقيم معاصريه وغيرهم كلمات جارحة يبتدأ مثلا ابن خلدون بالوهم  فالمباحث الركيكة، المضحكات والكذب الذي يشترك فيه مع ياقوت الحموي ومع أعلام كالمسعودي والبكري.

فالمشروع الذي يؤطر فيه رؤيته لهذه الآثار هو نسبة قوتها في الأصل أي الدولة المنجزة لهذه المعالم والمواقع  والتي ذكرنا بها ابن خلدون في عدة مناسبات وفي فصول متنه العديدة بثابتة من ثوابت كتابته وهي تقديم معجب بما خلفته لنا الانسانية أولا رابطا ذلك بدوام العمران والذي ينجز خوارق حديثة كما أنجز الأسلاف ومازال الانسان في عمرانه يتحفنا بالقصور والقناطر وغيرها فنراه يتحدث  عن ايوان كسرى ,الاهرامات الفرعونية بمصر، ديار ثمود، حنايا جلب الماء الى قرطاجنة فاسحا المجال أمام الابداع الانساني بعد هذه العجائب ليذكر معالم عاصرها العامة والخاصة، آثار يقول عنها " فقد نجد آثارا كثيرة من آثار الذين تعرف مقادير أجسامهم من الأمم وهي في مثال ذلك العظم أو أعظم كايوان كسرى ومباني العبيديين من الشيعة بافريقية والصنهاجيين وأثرهم باد الى اليوم في صومعة قلعة بني حماد وكذلك بناء الأغالبة في جامع القيروان وبناء الموحدين في رباط الفتح"(6) أو حامع بني أمية بقرطبة والقنطرة التي على واديها.

ليطرح بعد ذلك اشكالية مهمة وهي اجتماع الفعلة، كثرة الأيدي، الحيل في نقل الأجرام , الصناعة الهندسية المتقدمة وخاصة الأزمنة المتعاقبة لإنجاز معلم عظيم أين أورد لنا في فصله الذي عنونه " في أن الهياكل العظيمة جدا لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة " فيقول ابن خلدون محللا فكرته  "والسبب في ذلك ما ذكرناه من حاجة البناء الى التعاون ومضاعفة القدر البشرية وقد تكون المباني في عظمها أكثر من القدر مفردة أو مضاعفة بالهندام كما قلنا فيحتاج الى معاودة قدر أخرى مثلها في أزمنة متعاقبة الى أن تتم فيبتدئ الأول منهم بالبناء ويعقبه الثاني والثالث وكل منهم قد استكمل شأنه في حشر الفعلة وجمع الأيدي حتى يتم القصد من ذلك ويكمل ويكون ماثلا للعيان يظنه من يراه من الاخرين أنه بناء دولة واحدة وانظر الى ذلك ما نقله المؤرخون في بناء سد مأرب وأن الذي بناه سبا بن يشجب وساق اليه سبعين واديا وعاقه الموت عن اتمامه فأتمه ملوك حميرمن بعده" (7)

أما المباني الغير مكتملة فهي حسب ابن خلدون انقلاب الملوك على سابقيهم ولوكانوا أولي قربى ورفضهم اتمام معالم بدأ آبائهم في انجازها ليدخلنا بعد ذلك في اشكالية حضارية خطيرة ترجع الى آلاف السنين وهي طمس آثارالقدامى فهذا رمسيس السادس اختلس اسم رمسيس الرابع و نسب الانجاز لنفسه عند معبد الأقصر أو بمعبد آمون عندما جعل ابساميطقوس الأول اسمه على الأعمدة مكان اسم صاحبها ليورد مثالين أولهما عزم الرشيد على هدم ايوان كسرى والاطاحة بجزء هام منه ثانيهما المأمون في هدم أحد الأهرامات بمصر والشرخ الباقي الى اليوم وعجزهما عن الهدم أين يرجع ذلك الى القدر المفرطة التي أسسته رغم اعتباره  الهدم أيسر من البناء .

أما التراث المكتوب والذي  حاز اهتمام خاص عند ابن خلدون والذي ابتدأه بالحروف والكتابة مذكرا بكتابة المسند لأهل حمير وأن الكتابة تابعة للعمران فبعد أن كان الخط العربي كأصحابه البدو غير متقدم وبعد أن تمكنوا من أصول التحضر تفننوا في خطهم ، كانت لهم العلوم وسوق الكتب والمكتبات ومخازنها ليؤطر كل الظواهر الحضارية التابعة للأمم الغابرة أوالحضارات التي عاصرها ضمن مقولات مشروعه ليصل بعد تحليل الى العلوم التي قسمها أقسام لم تختلف عن التقسيم المرجعي للعرب وقتها كعلوم نقلية وأخرى عقلية أين ذكر بالمترجمين الذين فسحوا المجال أمام معرفة التراث العلمي،الأدبي، الصوفي والفلسفي لليونانيين وغيرهم أمثال حنين بن اسحاق، ثابت بن قرة  وفي جميع العلوم الهندسة، الطبيعيات، الطب وغيره كما لم يفته الحديث عن ذكر حركة الترجمة النوعية أيام المأمون، هذه الترجمة عموما ناقش متنها العلماء العرب، أثرت فيهم ، تأثروا بها ليلخص هذه المرحلة معبّرا عن موقفه تحاه العلماء والمفكرين الذين تقاطعوا مع ما ترجم قائلا "وكتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس ترجمت مع ما ترجمت من علوم الفلسفة أيام المأمون وألف الناس على حذوها وأوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب "الشفا" جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب "النجا" وفي كتاب  الإشارات وكأنه يخالف أرسطو في كثير من مسائلها ويقول برأيه فيها وأما ابن رشد فلخص كتب أرسطو وشرحها متبعا له غير مخالف وألف الناس في ذلك كثيرا" (8).

 حاول نص ابن خلدون وصاحبه تقديم هذه الأمم والحضارات كحلقة تربطنا بماضينا ، بالإبداع الإنساني في العمارة والعلوم ، هذه الأمم وإن اختلفنا معها في التصورات والمعتقد تبقى مهمة في عملية التواصل والجدل الحضاري، احتجنا التراث العلمي لنطور حضارة البداوة التي انطلق من رحمها العرب ويؤسسون لحضارة مازالت تؤثر في العالم اليوم، حضارة استقدمت البنائين والمهرة في كل فنون العمارة لنجد العاج الأندلسي والقصور العباسية ، هذه العمارة هي انعكاس منطقي لمقدمات التطور العمراني والمعرفي للحضارة العربية ، لقوة الدولة وقتها، كما المعالم القديمة للحضارات الغابرة التي ساهمت معالمها الظاهرة والمنقرضة في الوقوف على هذه الأطلال لفهم تاريخ الحضارات  وفتراتها منذ النشأة حتى الانهيار فالرسالة الضمنية والمصرحة التي تقود العلامة ابن خلدون في نصه مادام العمران موجود بمقوماته المادية يواصل الإنسان إبداعاته في التراث المعماري أو العلمي المكتوب، يكفي أن نؤمن بقدراتنا فسننجز مثل عجائب الدنيا الماضية في حجم تطورنا ولحظتنا التاريخية فقد قارن كما أسلفنا معالم كسرى والفراعنة بمعالم العبيديين والموحدين وغيرهم قارا بذلك حركة التاريخ المبنية على أساس تعاقب الحضارات تعاقبا دوريا يخضع للحتمية التاريخية المار بالنشأة فالإزدهار والإنحطاط بمنظور واقعي خلفت تصورات ورؤى استفاد منها الغرب فترجموا كتبه التي كانت منطلقا غذت نظريات علماء الاجتماع والمؤرخين.

الإحالات :

1) كتاب العبر- عبد الرحمان بن خلدون -منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – بيروت – ص 9 

2) نفس المصدر (ص 178)

3) نفس المصدر (ص 177) 

4) نفس المصدر (ص 348)

5) معجم البلدان – شهاب الدين ابن عبد الله ياقوت ابن عبد الله الحموي الرومي البغدادي  المجلد الأول دار صادر - بيروت  (ص 187)

6) كتاب العبر (ص345)

7) نفس المصدر (ص 346)

8) نفس المصدر (ص 492)

تعليقات