د. مروة حمدي | مصر
في فلك الفن تشرق شمس لا تغيب، إنها شمس محمد منير التي
أضاءت سماء الموسيقى المصرية بألوان نادرة تأبى الخفوت. هو ذلك الصوت الذي لم يولد
صدفة، بل نبع من رحم الجنوب المصري، حيث تلتقي همسات النيل بخفقات القلب النوبية،
تلك الهمسات التي شكلت تكوين أجيال كثيرة، وخاصة جيل الثمانينات.
في أزمنة غابرة، كانت قرى أسوان تنبض بالحياة على إيقاع
الطبول والدفوف، يختلط فيها ضجيج الطبيعة بأصداء الأهازيج البدائية. هناك، في فجر
طفولته، تعلم محمد أن اللغة التي لا تحتاج إلى حروف هي لحن الروح، فرأى الألحان
تنسج من حوله قصة طويلة من الشوق والتوق إلى الجذور.
رحل الصوت الصغير إلى آفاق أرحب حين قرر منير أن يفتح باب
قلبه لكل من يئن بلا صوت. كان صدى قريته مصدر وجدانه، فتسللت إلى نبراته دموع
الفقراء وآهات العمال في حقول القطن. ذلك الشجن جمعه مع القوة، حيث علمه هذا
المزيج النفسي أن يواجه صمت العالم بصرخة يغنيها الروح.
في القاهرة، المدينة التي لا تنام، وجد منير مسرحا أكبر
لصوته الذي أنضجته تجربة الحياة. بين أروقة الأوبرا وأزقة الحواري، تشكلت شخصيته
الفنية؛ مكتنزة بمكنونات نفسية لا يعرفها إلا من عايش بين طيات الألم والأمل معا.
كان يبحث دائما عن التوازن بين شموخ الحلم وهشاشة الواقع.
إن غناء منير ليس غناء للترفيه فقط، بل هو فعل اجتماعي
وإنساني. فقد منحه إيمانه العميق بقدرة الموسيقى على التشافي والاستنهاض، فاستحضر
في أغانيه وجع المهمشين وأحلام شريحة كبيرة من المجتمع. لم ينس أن يرويهم صوتا
يسمعونه بين أرجاء أسواق القاهرة وأصقاع الدلتا.
يأخذنا منير بصوته عبر ألوان متناقضة في آن واحد: صرخة ألم
تناجي صمت الليل، وهمسة فرح تداعب الفجر الأول. فإذا تصاعدت نغماته في «بتميل يا
نيل» أحست القلوب بأن الماء والزيت لا يختلطان فحسب، بل يتعانقان، فتولد في النفس
فسحة الأمل وشذى الانتظار الجميل.
ومع شهقة الشجن يولد الشغف. فحين يحط لحنه في «حدوتة مصرية»،
تتراءى أمامنا صورة أرض تنبض بذكريات الأجداد، فتذوب الحدود بين الزمان والمكان،
ويصبح الصوت جسرا يربطنا بعراقة تحتاج إلى من يحميها ويرعاها، كما يحمي منير تراثه
ويغنيه بلغة القلب.
ولا تكتمل ملامح الإنسان في صوته إلا حين تمتزج قوته بضعفه.
فنراه في «إزاي ترضي لي حبيبتي» يعلن صرخة الكرامة في وجه الظلم، ثم يستكين في
لحظة هدوء ليهمس للإنسان «بتبعديني»؛ حضور يقر بأن الانكسار يسبق الشموخ، وأن
العاطفة الصادقة هي من تصنع أساطير النجاة.
وفي عمق التجربة الإنسانية التي كرسها منير، تنبثق أغنية
«يونس» مثالا صارخا لصموده وحبه للحرية. هناك، في الكلمات التي يهمسها النيل
والأوتار النوبية، نجد الشاب الذي يسعى للعودة إلى جذوره بعد غربة قسرية، متحديا
تيه الحياة بصوت يثور كالرعد في وجه الظلم. الأغنية تظهر قضيته الكبرى: دفاعا عن
كرامة الإنسان وحقه في اختيار مستقبله.
يقف الوجه الذي حمل جبينه خطوط النيل وتعرجات التاريخ كشاهد
صامت يروي ملحمة بصمتها تجاعيد الزمن. عيناه اللامعتان تبوحان بأغلال الأمل والألم
معا، وكأنهما نهران يجريان تحت جسر من الشجون والبهجة.
لقد عكف منير على تحويل الصرخة إلى لحن يداعب الأفق، ووظف
ضعفه في الأوقات الحالكة ليولد قوة تبعث في النفوس شعور التضامن والتكاتف
الاجتماعي. وفي أغان أخرى كـ«سجل أنا عربي»، أعلن عن كرامة الإنسان كقيمة لا تساوم
عليها الشعوب، مطلقا صرخة انتصار داخل قلب كل مستمع.
لم تكن مساهمة منير في الفن موسمية، بل رافقته أجيال تردد
أصداء صوته من الثمانينيات حتى اليوم. فقد رواه شغفا وجدناه في طفولة لا تعرف
اليأس، وبنينا عليه قناعات ثقافية واجتماعية حول دور الفن في بناء الوعي.
وفي ساعات نقف فيها أمام صورة وجهه، نقرأ فيه قصص التاريخ؛
جبين يحكي فصولا من الصمود، وخدين يذوب فيهما شجن الحب، وشفتين ترسمان على ثغر
الليل بسمة وألما متلازمين، كأنهما لحنان ثابتان في ذاكرة الأزمان.
على المستوى النفسي، يحفر المنير في وعي المستمع من خلال
أغنية «يا يونس»، كأنه يسأل ذاته عن طريقها نحو اليقين، نحو الحرية: «وده حب إيه ده
اللي من غير أي حرية؟»، كمن يتخلى فيه عن كل شيء مقابل فك قيود الحزن والاستعمار.
لحظة الانهيار تلك تولد شغف البدايات الجديدة. هذه التناقضات تجعل النفس تحتضن ضعفها،
وتحوله قوة، في تناسق مع تيار النيل المضطرب.
اجتماعيا، تتحول «يونس» إلى نشيد للجماعة؛ حيث تضم كلماته
حكايات الفلاحين والعمال والعشاق والغرباء جميعا، فتتصارع على المنصة لحنا وصوتا،
وترسم دور الفرد في إعادة بناء المجتمع. لقد جعل منير الأغنية ساحة للتضامن، يعلن
فيها بأن الحرية مسؤولية مشتركة، وأن الكرامة لا تنال إلا بالوحدة والصمود.
حسن التكوين الصوتي عند منير ليس وليد لحظة عابرة، بل حصيلة
عمر من التعلم والتدرب. ومن تلك المسيرة تبرز قدرته على تحويل الحروف إلى لوحات
رسم فيها الحزن والفرح بلون واحد: لون الإنسانية الباذخ. فما بين درجات صوته
العالية ومنخفضاته العميقة، تنسج النفس مسرحا لا يخبو لمن يستمع إليه.
وفي الختام، يبقى صوت محمد منير نهرا لا ينضب، يجري في عروق الإنسانية، حكاية فصل خالد في تاريخ الموسيقى العربية. هو شاعر القلب الذي علمنا أن الحرية ليست مجرد كلمة تردد، بل لحن يستمر في دقاته بعد آخر نغمة يطلقها الإنسان في حكايته؛ حكاية إنسان.